العنوان : ألا فلا تتخذوا القبور مساجد
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أعظم ذنب عصي الله به هو الإشراك به ثبت في الصحيح أن عبد الله بن مسعود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك..) الحديث.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى قال الإشراك بالله ..) الحديث.
ولعظم الشرك كان من مات عليه من أهل النار خالداً فيها أبد الآباد قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال تعالى (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) وقال تعالى (إن الله لعن الكافرين واعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً)
ولخطر الشرك فقد نهى الشارع الحكيم عن كل الوسائل المفضية إليه وسد أبوابها وأحكم إغلاقها وعلى رأس تلك الوسائل الغلو في القبور.
لأنه أحد البوابات الكبرى التي أدخل إبليسُ وجنودُه الناسَ منها إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله فإذا مات العبد الصالح زين لهم أن البقعة التي دفن فيها بقعة مباركة ببركة من دفن فيها
وربما استخف بعضهم فزين لهم البناء على بقعة قيل لهم إن فيها قبر عبد صالح أو قيل لهم إن فلاناً رأى في منامه رؤيا تدل على أن هذا المكان فيه قبرُ صالحٍ فيقصدون تلك البقعة لعبادة الله عندها بصلاة أو قراءة أو دعاء ونحو ذلك
ثم يزين لهم أن يبنوا على قبره قبة حتى يتميز عن غيره من القبور المجاورة له وحتى يعرف الجاهل والغريب مكانة هذا القبر فيقصده لعبادة الله عنده.. ثم يزين لهم بعد ذلك أن يجعلوه وسيلة بينهم وبينهم الله يطلبون منه الدعاء لهم عند الله
ثم يزين لهم إشراكه بالله في ألوهيته بأن يعبدوه بدعائه والاستغاثة به والذبح له والنذر له باسم التبرك والتوسل والمحبة
ثم يزين لهم إشراكه بالله في ربوبيته بالاعتقاد أنه المتصرف في الكون إحياءً وإماتة وضراً ونفعاً والعياذ بالله..
فجاءت الشريعة بمنع كل وسائل الغلو في القبور ولا سيما قبور الصالحين، ومما جاء في هذا الباب:
أولاً : النهي عن رفع القبور فوق الأرض ارتفاعاً بينا عن ثمامة بن شفي -رحمه الله- قال : « كنا مع فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- بأرض الروم فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوي ، ثم قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها ». أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
وعن أبي الهياج الأسدي : قال : قال لي علي رضي الله عنه: « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ».أخرجه مسلم ، والترمذي ، والنسائي .
ثانياً: النهي عن الكتابة عليها وزخرفتها عن جابر رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه أحمد ومسلم والثلاثة وفي لفظ النسائي نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه.
ثالثاً: النهى عن إيقاد السرج عليها وهي المصابيح تعظيماً لها ودلالة للناس عليها وتمييزاً لها عن غيرها. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
رابعاً: النهي عن قصد اتخاذها مصلى أو مكاناً للعبادة كقراءة القرآن أو الذكر والاستغفار أو توزيع الصدقات من مال أو طعام أو شراب. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: « قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ، ولا تتخذوها قبورا » متفق عليه وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تجعلوا بيوتكم مقابرَ ، إِن الشيطان يَفِرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة».أخرجه مسلم ، والترمذي
أي صلوا في بيوتكم غير الفريضة ولا تهجروا الصلاة وقراءة القرآن فيها فتكون كالقبور التي لا يصلى فيها ولا يقرأ فيها القرآن لأن الشرع لم يجعلها محلاً لذلك.
وعن أبي مرثد الغنوي – رضي الله عنه – قال : قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- « لا تجلسوا على القبور ، ولا تُصلّوا إليها ». أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
خامساً: النهي الشديد عن دفن القبور في المساجد أو بناء المساجد على القبور فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قاتل الله اليهود ، اتَّخذُوا قبور أنبيائهم مساجدَ » وفي رواية « لعن الله اليهود والنصارى…» متفق عليه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – : قالت : قال رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يَقُمْ منه : « لعن الله اليهود والنصارى ، اتَّخذُوا قبور أنبيائهم مساجدَ. قالت : ولولا ذلك أُبرِزَ قبرُه ، غير أنه خُشيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا ».
وعنها وعن ابن عباس قالا : « لما نُزِلَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم أي نزلت به سكرات الموت : طَفِقَ يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه ، فقال : وهو كذلك – لعنةُ الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذِّرُ ما صنعوا » متفق عليهما
وعن عائشة رضي الله عنها : قالت : « لمَّا اشتَكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذكر بعضُ نسائه كنيسَة ، يقال لها : مارية ، وكانت أمُّ سلمَةَ ، وأُم حبيبةَ أَتَتَا أرضَ الحبشة ، فذكرتا من حُسنِها وتصاويرَ فيها ، فرفع رأسَه ، فقال : أولئك قوم إِذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ بَنَوْا على قبره مسجدا ، ثم صوَّروا فيه تلك الصور ، أُولَئِكِ شِرار خلق الله».أَخرجه البخاري، ومسلم .
وعن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – : قال : سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموتَ بخمس وهو يقول : « إِني أَبْرَأُ إِلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلا ، كما اتَّخذ إِبراهيم خليلا، ولو كنتُ متخذا من أُمَّتي خليلا لاتَّخذتُ أبا بكر خليلا ، أَلا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أَنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، أَلا فلا تتخذوا القبور مساجدَ ، إِني أَنهاكم عن ذلك ». أخرجه مسلم.
وفي هذه الأحاديث بيان واضح على كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وشدة حرصه على ما فيه مصلحتهم حيث لم يشغله ما يعانيه من سكرات الموت من تحذيرهم من الغلو في قبور الأنبياء حتى لا يغلوا في قبره فيقع لهم ما وقع لمن قبلهم
وفي هذه الأحاديث بيان كمال علم الصحابة حيث دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته في بيت عائشة لأنهم لو أبرزوا قبره لما أمن أن يتوصل إليه الجهال مع تقادم الزمان وغلبة الجهل فيتخذوه وثناً يعبدونه من دون الله.
وفيها أن البناء عليها وإيقاد السرج عليها كله من كبائر الذنوب إذ لعن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابها واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله والعياذ بالله
وفيها ما يدعو المسلمين جميعاً إلى تطهير المساجد من القبور ، ومحو آثار الغلو في القبور بتسوية المرتفع منها وإزالة الكتابات عنها ومنع مظاهر البدع والشركيات والخرافات التي يعصى الله بها عندها
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يصلح أحوالهم وأن يهيئ لهم دعاة ناصحين وحكاماً مصلحين يزيل الله على أيديهم هذه المنكرات إنه سميع قريب.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجب شرعي لا يتم الإيمان التمام الواجب إلا به بل لا يتم حتى تكون محبته مقدمة على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ومحبة النبيين والصالحين من أفضل القربات واجلها فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله والمرء يوم القيامة مع من أحب
ولكن محبة الصالحين لا تعني صرف شيء من العبادة لهم ولا تقتضي فعل ما نهى الله ورسوله عنه معهم من الغلو فيهم بالحلف بهم أو العكوف عند قبورهم أو شد الرحال إليها أو اتخاذهها مساجد يصلى عندها وإليها أو تبني المساجد عليها أو تصرف لها الذبائح والنذور أو غير ذلك من صور الشرك أو من صور البدع والضلال.
فإن تسمية هذه المنكرات محبة وتبركاً وتوسلاً لا تغني شيئاً لأن العبرة بالحقيقة لا بالاسم والشعار فقط ، وهذه الأسماء يطلقها الخرافيون ودعاة الشر ليزنوا الباطل وليمشوا الضلال على من لا تمييز عنده.
وبعض الناس يثير الشبهات حتى يلبس على الناس والواجب على المسلم أن لا يلتفت إلى هذه الشبه ولا يصغي غليها وإذا التبس عليه شيء فليرد الأمر إلى أهل العلم فهم الشهب المحرقة لكل شبهة وهم المصابيح الذين يكشف الله بهم كل ظلمة.
كمن يلبس على الناس بقبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد وإنما دفن في بيته وكان بيته خارج المسجد كما أن المسجد لم يبن على القبر بل كان المسجد مبنياً بناه النبي صلى الله عليه وسلم بيده في حياته. ولما وسع المسجد في عهد بني أمية دخلت الحجرات في المسجد ضمن التوسعة وعمل ذلك الخليفة ليس حجة يحتج بها إنما الحجة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الناس من يلبس على الناس بقصة أهل الكهف وقول الله (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن علهيم مسجدا) وهذا أيضاً ليس فيه حجة على جواز بناء المساجد على القبور لأن الله يحكي صنيع قوم كان في الزمن الماضي وجاءت السنة الصحيحة مبينة حرمة هذا العمل وبلعن فاعله والتحذير منه فأي حجة في هذه الآية عند من يعقل؟؟
معاشر المؤمنين ..
11/2/1430هـ
جزاك الله خير الجزاء
جزاك الله خير الجزاء