العنوان : التحذير من الغـش وبيان جملة من أنواعه
أما بعد :
فإن من أعظم الآفات التي تصاب بها الأمم فتقوض دعائمها وتهدم بنيانها وتزرع الضغائن بين أبنائها وتؤخرها عن ركب الحضارة أن تبتلى بداء الغش في أفرادها .
إن الغش مأخوذ من الماء الغشش وهو الماء الكدر الماء الذي اختلطت به الشوائب فكدرته حتى لم يعد ماءً صافياً , وهكذا الغاش تكدرت إرادته نحو غيره حتى لم يعد يضمر لهم الخير والصلاح وإنما يضمر لهم الشر والسوء فلا يبالي بمضرة أحد وأذيته إذا وصل هو إلى مراده .
والله عز وجل شرع لنا ديناً قويماً يقوم على النصح وحب الخير للغير , النصح أن يكون قلب المسلم أبيض من اللبن وأصفى من العسل لا يريد إلا الخير لنفسه ولإخوانه يحب لأخيه المسلم كما يحب لنفسه . بل ويحب لغير المسلم الخير أيضاً فهو يتمنى هدايته وإسلامه .فليس في قلب المسلم مكان للخيانة لأحد ولا مكان للخديعة والمكر بمن لا يستحق.
لقد شرع الله لنا ديناً يأمر بالنصح وينهى عن الغش .
ففي باب النصح جاء قوله صلى الله عليه وسلم ” الدين النصيحة ” رواه مسلم فجعل الدين مبنياً على النصيحة التي هي إرادة الخير للمنصوح له .
وقوله صلى الله عليه وسلم ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ” متفق عليه وقد بايع الرسول بعض أصحابه على النصح لكل مسلم كما في الصحيحين ,إلى غير ذلك من النصوص الآمرة بأن تكون علاقة المسلم مع إخوته ومجتمعه علاقة مبنية على أساس من الأخوة وما تفضيه الأخوة والمحبة وإرادة الخير .
وجاء في النهي عن الغش قوله صلى الله عليه وسلم ” من غش فليس منا ” وفي رواية ” من غشنا فليس منا ” , فهذا حديث عظيم جامع في النهي عن الغش والتحذير منه والتنفير عنه , لأن هذا الأسلوب يدل على أن العمل المنهي عنه من الذنوب الكبيرة والآثام العظيمة فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر من فعله فليس منا فاحذره وابتعد عنه فإنه أحد المهالك .
ومن ذلك الغش.. ولهذا الحديث سبب وهو أن الرسول مر برجل يبيع طعاماً فأدخل يده في الطعام فإذا هو مبلول من أسفله فقال : ما هذا ؟ فقال : أصابته السماء يعني المطر , فقال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس .. من غشنا فليس منا ” رواه مسلم .
إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد من التاجر المسلم أن ينظر إلى أمر واحد فقط وهو مصلحة نفسه دون مبالاة بالضرر الذي يقع على المشتري برداء السلعة أو ارتفاع ثمنها.
إن المؤمن الحق المؤمن الصادق هو الذي لا يرضى أن يغش غيره ولو كان سيجني من غشه كنوز الذهب والفضة , لأنه يعلم أن ما سيجنيه مهما بلغ فهو زائل وسيبقى بعده سخط الله وعذاب النار والعياذ بالله .
وحين علق النبي على تصرف التاجر لم يقل ” من غشنا من التجار فليس منا ” بل قال : (من غشنا فليس منا) , يعني في كل شيئ فالغش كله حرام من التجار من غيرهم وكلما عظمت مفسدته عظم إثمه, ومن صور الغش التي تبتلى بها المجتمعات :
غش الرعية : فإذا ولاك الله ولاية كبيرة كانت أو صغيرة بداية من الولاية العامة وانتهاءً بولاية الرجل على أهل بيته فحرام أن تغش رعيتك بمعنى أن تفعل ما يضرهم في دينهم أو دنياهم .. فأنت مسؤول عن نفسك وعن رعيتك .
ففي هذا يقول صلى الله عليه وسلم ” ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ” متفق عليه .
فهي مسؤولية عظيمة وأمانة جسيمة على العبد أن يستعين بالله على أدائها على الوجه الذي يرضيه.
ومن صور الغش , الغش في الفتوى فقد تبتلى الأمة بمن يفتي الناس وهو ليس بأهل للفتوى إما بسبب الجهل وإما بسبب الهوى وعَظُمَ الخطب في هذا الزمان حيث كثر المفتون على القنوات والصحف والإنترنت وغيرها .. فأحلوا للناس ما حرم الله بدعوى التيسير أو حرموا ما أحل الله غلواً وتشديداً فوجب على المسلم أن يتقي الله وأن يحرص أن لا يتلقى الفتوى إلا من أهل العلم المعتبرين . وأنتم في هذه البلاد والحمد لله قد من الله عليكم بجهة رسمية للفتوى يقوم عليها ثلة من خيار علماء المسلمين إن شاء الله علماً واعتقاداً فلا ينبغي للعوام أن يتلقوا الفتوى من غيرهم لاسيما إذا كانت الفتوى تخالف ما عليه العمل في هذه البلاد لأن ذلك من أسباب حدوث البلاء والفتن والتفرق .
ومن الغش الذي قد يقع فيه بعض المتكلمين والكتاب ممن عرف بالدعوة إلى الله : تزكية أهل البدع والانحرافات العقدية ممن اشتهر عنهم الدعوة إلى بدعتهم وضلالتهم , فتزكيتهم والحث على قراءة كتبهم وسماع أشرطتهم غش عظيم لشباب المسلمين خاصة وللمسلمين عامة .
وبهذه الصورة من الغش راجت كثير من كتب الخوارج وأذنابهم في كثير من مكتباتنا مدة طويلة من الزمن نسأل الله أن يريحنا مما بقي منها .
ومنها : عيبُ أهل الحق وذمُهم وتشويهُ صورتهم لاسيما من عرف بنصر السنة ومحاربة البدعة ككبار علماء السنة و طلابهم الذين تميزوا بالرد على المناهج الباطلة الوافدة ودعاتها , فالقدح في هؤلاء سبب عظيم في صد الناس عن معرفة الحق وقبوله وسبب في الوقوع في شرَك الباطل واعتناقه.
ومن الغش : أن يتصدر للكتابة في الصحف من ليس بأهل ممن يكتبون فيهدمون الحق بكتاباتهم كالطاعنين في الإسلام عموماً أو الطاعنين في عقيدة أهل السنة والجماعة أو الطاعنين في أبرز أئمتها كشيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن القيم أو الإمام محمد بن عبد الوهاب ومن سار على دربهم فهذه جناية عظيمة ولا يجوز أن يمكنوا من ذلك فضررهم أعظم من ضرر مهربي المخدرات ومروجيها فهؤلاء يفسدون الأبدان والأخلاق ولا يفسدون الدين إلا تبعاً أما أولئك فيفسدون الدين أصلاً وقصداً والعياذ بالله .
ومن أولئك الكتاب الذين غشوا الأمة الداعون إلى التبرج والسفور والانحلال الخلقي بدعوى الحرية والمساواة والعدل. المصورون للقراء أن الحجاب والفصل بين الجنسين تأخر ورجعية وتقييد لنهضة الأمة وتعطيل لقدرات المجتمع وتشدد في الدين لا أساس له إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة.
فهؤلاء غشوا أنفسهم وغشوا أمتهم نسأل الله أن يهدي ضالهم وأن يكفينا شر أهل المكر والكيد منهم.
ومن صور الغش الإعلامي الكبير الذي تحملت وزره كثير من القنوات الفضائية ومواقع الشبكة العالمية الحملات الشرسة التي تشنها على هذه البلاد السعودية . وما نقموا منها إلا تطبيقها للإسلام ودعمها لقضايا المسلمين في المشارق والمغارب مادياً ومعنوياً وعمارتها للمسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ونشرَها دعاة التوحيد في العالم ومحافظتها على القيم والحشمة في رعيتها
يحسدونها على الدين الحق ويحسدونها على ما هي عليه من الاستقرار ويحسدونها على ما هي فيه من الرخاء وكل ذي نعمة محسود .
لقد قلنا مراراً إن الطعن في ولاة أمر هذه البلاد أو كبار علمائها هو طعن في الإسلام , طعن في التوحيد , طعن في معتقد أهل السنة والجماعة, طعن في معتقد السلف الصالح .
فعليكم أهل هذه البلاد أن تكونوا يقظين واعين فلا تسمحوا لأنفسكم ولا لغيركم وأبنائكم وزملائكم ومن حولكم أن تنتشر هذه السموم الفكرية بين أحد منكم إنها مكيدة عظيمة تريد زرع الفتنة وهدم الشريعة
ويقظتُكم وثباتكم وانضواؤكم تحت راية ولاتكم وإصغاؤكم لنصائح كبار علمائكم .. هو الحصن الحصين إن شاء الله الذي تتحطم عليه كل مكايد أهل الباطل مهما بلغت .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أما بعد :
ومن الغش ما يحصل في باب التجارة من إخفاءِ عيوب السلعة أو النقصِ في المكاييل والموازين أو استغلالِ غفلة أحد الطرفين فهذا كله محرم .
ومنها غش المسلمين وذلك بترويج البضائع المحرمة كالأشرطة المحرمة لاشتمالها على البدع والمحدثات أو لاشتمالها على الأغاني والمعازف . وكالمجلات المحرمة التي تنشر البدع والمحدثات أو التي تنشر الفسوق والمجون , وكبيع الملابس النسائية التي تشتمل على أسباب التحريم لقصرها أو ضيقها أو كشفها بعض أجزاء البدن على من تلبسها أمام غيرِ زوجها .
إن إغراق الأسواق بمثل هذه السلع غش للمسلمين وإعانة لهم على سلوك طريق الباطل والعياذ بالله , فعلى التاجر أن يتغلب على حبه للمال فلا يرضى أن يكتسب مالاً بطريق محرم إن المال زائل , وحساب الله آت لا محالة .
ومن صور الغش : الغش في الامتحانات .
فحصول الطالب على الإجابة في قاعة الامتحان بغير جهده الذي اكتسبه من مذاكرته واجتهاده وتدوين تلك الإجابة غش لا يجوز له . وإذا قيل لا يجوز فالمعنى أنه حرام فلا يجوز للطالب أن يستعين بزميله أو يطلع على إجابة زميله أو يدخل معه المعلومات إلى قاعة الامتحان في ورقة أو على ملابسه أو غير ذلك من الوسائل , فهذا كله غش لا يحل له . فما عرفت فأجب فإن نجحت فالحمد لله، وإن أخفقت فالفرص القادمة كثيرة إن شاء الله وإخفاق الدنيا خير من الإخفاق في الآخرة .
وبعض المعلمين قد يقع في تغشيش طلابه من باب التودد والتحبب إليهم وهذه خيانة كبيرة تدل على جهله وقصر نظره وقلة أمانته .. فقد عصى الله ورسوله وولاةَ أمره وأصبح قدوة سيئة لطلابه , ثم مع ذلك هو أحقر الناس في عيونهم ولو بعد حين وإن فرحوا بتصرفه في تلك اللحظة لكنهم سيحتقرونه ولابد . وهكذا من أسخط الله برضا الناس سخط عليه الله وأسخط عليه الناس .
إن الغش في الامتحانات حرام في كل المواد بما في ذلك مواد اللغات الأجنبية .. لعموم النهي في الحديث .
إن الغش في الامتحانات يترتب عليه مفاسد كثيرة ومنها :
وصول الغاش إلى مكان لا يستحقه في وظيفة أو عمل أو نحو ذلك ومنها استمرار الغش فتكون حياته المستقبلية مبنية على الغش والتحايل والتهرب من المسؤولية مما يؤدي إلى فساد الأحوال والأوضاع الذي به يكون خراب الدنيا وقيام الساعة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ” إذا وليّ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة ” .
ومنها تربية الغاش نفسه على مراقبة الخلق فقط والغفلة عن مراقبة الله وهذا خطر عظيم فالواجب على المسلم أن يربي نفسه ويؤدبها على مراقبة الله وحده الذي لا تخفى عليه خافية فرقيب المؤمن نفسه لأنه يعلم أن الله مطلع عليه . والمنافق إنما يراقب الخلق إن اطلعوا عليه أحسن وإن غفلوا عنه أساء .
وفي الغش مفاسد كثيرة تدرك بالتأمل والنظر فاحذروا الغش كله وكونوا أهل نصح وصدق وأمانة .
ثم اعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كتاب الله …..الخ