العنوان : تسلية أهل المصائب
الخطبة الأولى
أما بعد:
أخوة الإسلام إن الحياة الدنيا دار إبتلاء وعناء. كثير أنكادها وأتعابها قليل صفاؤها وهناؤها وذلك أنها دار امتحان ليتبين المؤمن من الكافر والصادق من الكاذب ثم بعد ذلك تأتي النقلة إما إلى الجنة وإما إلى النار على حسب ما عمله المكلفون في حياتهم الدنيا .
إخوة الإيمان:
إن المقادير التي سبق الكتاب بها أنواع متعددة منها المقادير المؤلمة وهي ما نسميه بالابتلاء .
المقادير القاسية في وقوعها على العبد لأنها تأتي مخالفة لهواه ربما تنتزع منه بأمر الله أعز ما يملك واغلى ما يجد وأحب شيء إلى قلبه.
وإليها الإشارة في قوله تعالى { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات }
وهذا النوع من المقادير كتبه الله على أرفع الخلق درجة عنده وأعلاهم منزلة لديه وهم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام وعلى من دونهم من الصالحين فما ظنك بغيرهم .
ومن قرأ القرآن وجد مصداق ذلك .
هذا نوح عليه السلام آذاه قومه وسخروا منه ألف سنة إلا خمسين عاماً ثم يهلك الله ابنه بالغرق كافراً.. وكلاهما مصيبة مصيبة الكفر ومصيبة الموت .
وهذا يعقوب عليه السلام ابتلاه الله بأحب ولده إليه يوسف عليهم السلام فأخذ منه إلى حيث لا يدري وفرق بينه وبينه مدة طويلة، فتأمل حال ذلك النبي الكريم الطاعن في السن يفجع بأحب ولده إليه لا خبر موت فيقطع الأمل ولا خبر حياة فيطمئن حتى كان يقول { يا أسفى على يوسف } وما زال يبكي عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن .
وابتلى الله أيوب عليه السلام بابتلاء عظيم حيث مسه الشيطان بنصب وعذاب فمرض مرضاً شديداً ، وهلك ماله ومات ولده وهجره أهله ومكث على ذلك سنين طويلة ثم أذن الله له بالشفاء فدخل المغتسل وركض برجله فنبعت له عينان شرب من إحداها فزال كل مرض بداخله واغتسل من الأخرى فعوفي كل بلاء في ظاهره ثم أحيا الله له ولده ورد له ماله جزاء له على صبره.
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) سورة ص 41-42
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم ابتلي بموت الأب والأم في طفولته ثم موت جده الذي كان له عوضاً من أبيه وأمه في العناية والرعاية والحنان… وابتلي بالفقر في صغره حتى اضطر أن يرعى الغنم مقابل مبلغ زهيد. { ألم يجدك يتيماً فأوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى }
ثم جاءت النبوة فوجد بسببها من العناء الدنيوي ما عانى .. كُذب وضلل وسب وشُتم وعذب أصحابه وأتباعه أمام عينيه ولا يملك لنفسه ولا لهم ضراً ولا نفعاً وابتلي بالجوع والفقر حين حبس بنو هاشم في الشعب ثلاثة أعوام لا يكلمون ولا يناكحون ولا يباع لهم ولا يشترى منهم حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر ويذهب أحدهم يتغوط فلا يخرج منه إلا كروث الدابة .
وابتلي بموت الزوجة والأولاد فماتت خديجة ومات ولده عبد الله وإبراهيم والقاسم وماتت زينب ورقية وأم كلثوم كلهم في حياته ولم يعش بعده إلا فاطمة وبقيت بعده ستة أشهر ثم لحقت به عليه السلام .
ثم طرد من بلده ودارت بينه وبين أعدائه من المحن ما لا يعلمه إلا الله قتل في بعضها الأحبة والمقربون إليه كحمزة وزيد بن حارثة وجعفر وسعد بن معاذ وأصيب في بعضها في جسده فشج رأسه وكسرت رباعيته ودخلت حلق المغفر في وجهه .
وما مات حتى كان أكثر صلاته النافلة قاعداً ومات وعمره ثلاث وستون سنة عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ثم أصيب في نفسه بل أصيب به الناس فقبضه الله إليه بعد مرض شديد استمر به اثني عشر يوماً وكان مرضه يضاعف عليه فيجد من المرض ما يجده رجلان ليضاعف له الأجر والمثوبة.
وهكذا طويت تلك الصفحات المباركة ورفعه الله إليه في الرفيق الأعلى ليتم له ما وعده في قوله { وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى }
وإن في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم سلاءً لكل محزون وتخفيف مصيبة كل مصاب . بارك الله لي ولكم في الكتاب المبين..
الخطبة الثانية
أما بعد إخوة الإيمان:
يقول المولى جل جلاله { ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
وفي هذه الآية بيان واضح صريح أن العبد معرض للبلاء والامتحان في هذه الحياة فعليه أن يكون كما أمره الله إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر حتى يكون صباراً شكوراً .
وإن هذه الدرجة لا تنال إلا بأسباب كثيرة بعد توفيق الله ومنها:
أولاً: أن يوطن نفسه على الابتلاء فإن المصائب تهون وتخف، بخلاف ما لو جاءت مفاجأة والقلب بعيد عن توقعها فارغ من انتظارها .
قيل لرجل من السلف احتسب أخاك فقد مات، فقال: قد علمت وقد نعي إلي فقيل من أخبرك ولم يسبقنا إليك أحد .فقال : بلى، قد نعاه الله إلىّ بقوله { كل نفس ذائقة الموت }
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثانياً: إذا كان البلاء بالسراء فليتذكر أن النعم إنما تدوم بالشكر وأن الذي أعطاه اليوم قادر على الأخذ غداً وأن الفرح ليس من صفات المؤمنين. قال الله في كتابه على لسان أهل الإيمان من قوم قارون { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } .
ثالثاً: إذا كان البلاء بالضراء فليعلم أن المصائب كفارات لذنوبه أو رفعة لدرجاته وأن الحزن والبكاء لا يرد فائتاً ولا يحيي ميتاً وليتذكر ما أعد الله للصابرين ومن ذلك ما بينه في قوله { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. وأولئك هم المهتدون } وقوله صلى الله عليه وسلم ” من يرد الله به خيراً يصب منه ” أي يبتليه . رواه البخاري
ثم ليتذكر من هو أشد منه مصيبة فيحمد الله إذ كانت مصيبته أخف من مصيبة غيره.
واذكر يا عبد الله كم قد أعطاك ربك. وكم قد أنعم عليك فإن هذا داعٍ من دواعي التخفيف ومن المعينات على الصبر والاحتساب.
أصيب عروة بن الزبير فمات أحد أولاده وقطعت إحدى رجليه فقال اللهم لك الحمد إن كنت قد أخذت فقد أعطيت وإن كنت قد ابتليت فقد عافيت.
ثم إن العبد إذا ابتلى ولم يصبر فقد خسر خسارتين خسر ما ابتلي به وخسر الأجر والمثوبة ولو صبر لكان الأجر والثواب خيراً له في دنياه وآخرته .
ومما يخفف المصيبة على صاحبها أن يتذكر نسيانه لها بعد فترة وذلك أن المصيبة تولد كبيرة ثم تصغر حتى تزول.
مات لابن المبارك ولد، فحزن عليه فدخل عليه يهودي يعزيه فقال يا أبا عبد الرحمن كن اليوم كما تكون بعد خمس ليالٍ فقال صدقت.
إخوة الإسلام:
إن من المصائب الكبار أن يبتلي الإنسان بابتلاءات عظيمة ثم لا يرق لها قلبه ولا تتجلى غشاوته ولا تذهب غفلته بل يستمر على معصيته لربه ويواصل المسير في دروب غوايته والعياذ بالله .
وهذه هي المصيبة الحقيقية حيث تكون المصيبة في الدين والعياذ بالله. فالله نسأل أن يحيي قلوبنا وأن يرزقها العظة والعبرة كما نسأله سبحانه العفو والعافية. والصبر في الضراء والشكر في السراء إنه جواد كريم .
جزاكم الله خيرا