العنوان : من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
هذه محاضرة ألقيتها في جامع الملك فهد رحمه الله بمدينة حائل في (24/4/1429هـ) وقد قام أحد الإخوة بتفريغها ثم راجعتها وحذفت بعض ما يقتضي الحال حذفه لإن الألقاء المرتجل يدخله بعض الخلل أو الوهم في التعبير أو التكرار ونحو ذلك مما لا يخفى وأسأل الله أن ينفع بها وأن يتقبلها إنه جواد كريم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن عنوان المحاضرة (من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم) ، ولا شك أنه موضوع عظيم القدر إذ يتعلق بشيء من حقوق سيد ولد آدم وخاتم الرسل وأعظم الخلق علينا منة صلوات الله وسلامه عليه والتي لا يمكن الوفاء بذكرها على الوجه اللائق في مثل هذا المقام الذي يقتضي الاختصار .
إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى ، ومن أعظم نعم الله سبحانه وتعالى التي منّ بها علينا وقد نوه الله تعالى بهذه المنة في مواضع من كتابه ومنها قوله سبحانه وتعالى: ( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) ، وقال سبحانه وتعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) .
كان الناس لا يعرفون عبادة ربهم تبارك وتعالى ، يتخبطون في ظلمات الجهالة ، في ظلمات الشرك ، في ظلمات الوثنية ، كانوا متفرقين أشتاتاً ، بعضهم يقتل بعضاً ، ويبغي على بعض ، كانوا أذلة فمن الله عز وجل عليهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فتغيرت أحوالهم ، (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) فجمع الله به بين القلوب بعد الفرقة ، وأعزنا به بعد الذلة ، وأنقذنا به من النار
ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بعد غزوة حنين إذ وجدوا في أنفسهم فقال لهم : ( يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي ، ومتفرقين فجمعكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وأذلة فأعزكم الله بي ) فما كانوا يجيبون إلا بقولهم : ( المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ) .
فالمقصود أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي من أعظم نعم الله عز وجل على عباده ، هذا النبي الكريم الذي اختاره الله عز وجل لهذه الأمة هو خير الرسل على الإطلاق ، هو سيد ولد آدم ، رفع الله عز وجل من شأنه وأعلى من قدره وفضله على خلقه وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) .
اتخذه الله عز وجل خليلاً كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن ) يعني نفسه صلى الله عليه وسلم .
ومن إكرام الله عز وجل لهذا النبي الكريم أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الشفاعة العظمى يوم القيامة ، يوم يعتذر عنها أولو العزم من الرسل ، يعتذر عنها نوح ، يعتذر عنها إبراهيم ، يعتذر عنها موسى وعيسى ، يعتذر عنها قبل ذلك آدم ، حتى يعرضونها على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : ( أنا لها ، أنا لها ) ثم يخر تحت العرش ساجداً فيسجد ما شاء الله له أن يسجد ويبتهل إلى الله ويثني عليه ويحمده بمحامد يفتح الله عز وجل بها عليه في ذلك المقام حتى يقال له : ( ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع ) .
ومن كرامات الله عز وجل لهذا النبي الكريم أن الله سبحانه وتعالى نوه بشأنه في الكتب السماوية السابقة وأخذ العهد على النبيين والمرسلين أنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأحدهم حي لا يسعه إلا أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عز من قائل : ( وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : ( لو كان موسى حي لما وسعه إلا أن يضع يده في يدي ويتبعني ) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه والحديث في مسند الإمام الدارمي .
نوه الله عز وجل بشأنه في التوراة وفي الإنجيل على لسان موسى وعلى لسان عيسى بن مريم كما قال سبحانه : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ، وقال عيسى لقومه : ( وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )
وسئل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة – وكان عبد الله بن عمرو له علم بالكتب السماوية السابقة ، اطلع على التوراة وقرأها – فقال : ( نعم ، إن صفته في التوراة : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفوا ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً ) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ، هذه بعض صفته في التوراة عليه الصلاة والسلام .
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار لهذه الأمة خير رسله عليه الصلاة والسلام، فهذه نعمة عظيمة تفتقر منا إلى شكر عظيم ، ومن شكر الله سبحانه وتعالى على إنعامه علينا بإرساله هذا النبي الكريم أن نعرف حقوقه علينا ، وأن نجتهد في الوفاء بها قدر الاستطاعة .
أيها الإخوة : إن حقوقه صلى الله عليه وسلم علينا كثيرة وسنشير إلى شيء منها في هذا المقام ، ومن أراد التوسع فليراجع كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليرجع إلى كلام أهل العلم في هذا الباب .
فمن حقوقه صلى الله عليه وسلم علينا :
أولاً : الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، أن نؤمن بنبوته ورسالته ، وهذا هو أعظم الحقوق وأولها وأجلها ، وهذا هو مفتاح الدخول في الإسلام ، فإن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم هو أحد ركني الشهادة ، فإن مفتاح الدخول في الإسلام وأول ركن من أركانه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فشهادة أن لا إله إلا الله معناها أنه لا معبود حق إلا الله سبحانه وتعالى فكل معبود سوى الله فعبادته باطلة ولو كان ذلك المعبود هو جبريل عليه السلام أو محمد صلى الله عليه وسلم أو غيرهما من الأولياء والأنبياء والصالحين ، العبادة حق خالص لله عز وجل لا يشاركه في استحقاقها أحد سواه ، وقد أمر الله عز وجل بأن يعبد وحده وأن لا يشرك به شيئ في مواضع كثيرة من كتابه الكريم يقول سبحانه وتعالى : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) ، ويقول سبحانه : (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) فهذا هو الجزء الأول من الركن الأول من أركان الإسلام .
أما الشطر الثاني والجزء الثاني فهو الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر الله بالإيمان به في مواطن كثيرة من كتابه الكريم كما جاء ذلك أيضاً في سنته صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه وتعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ) ، وقال سبحانه : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً ) ، وقال سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ثم قال سبحانه : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) ، فإذاً لا يمكن أن يحصل الفلاح ولا أن يحصل الهدى لأحد إلا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم .
وهكذا أيضاً جاء في السنة النبوية يقول صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن يؤمنوا بي وبما جئت به فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ، وجاء أيضاً في بعض روايات حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قال : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن يؤمنوا بي ) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، وهكذا أيضاً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) ، إلى غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بعموم رسالته إلى الثقلين الإنس والجن ، فإن هذا مما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن الأنبياء السابقين كانت رسالتهم وكانت دعوتهم خاصة بأممهم ، فلما بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم جعل رسالته عامة لجميع الثقلين الإنس والجن من بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وفي ذلك يقول الله عز وجل : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، ويقول سبحانه : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) ، ويقول الله سبحانه كما في الآية السابقة : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) ، كما جاءت آيات تخص الجن بالذكر واستجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في خطاب دعوته ، يقول سبحانه : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ) .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اجتمع بنفر من الجن وعلمهم ما شاء الله له أن يعلمهم من أحكام الدين .
فالمقصود أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للإنس والجن ، للعرب والعجم، منذ بعثته وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ، وختم بي النبيون ) رواه مسلم في صحيحه ، وروى البخاري حديثاً بمثله من حديث جابر رضي الله عنه .فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث أن بعثته إلى الناس عامة ولم تكن خاصة كما كانت بعثة الأنبياء من قبله .
ومن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بأنه قد بلغ الدين كاملاً غير منقوص ، فإن الله عز وجل أوحى إليه بدين كامل شامل لكل مصالح العباد ، بعثه وبين له كل ما يصلحهم وكل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم وفي أمر دنياهم من حيث القواعد العامة التي تصلح بها أمر الدنيا .
وكذلك أيضاً بين كل ما يقربهم إلى الله عز وجل وبين لهم كل ما يباعدهم من الله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ الدين كاملاً لم ينقص منه شيء قال الله عز وجل : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله إليه فقد كذب ) ثم تلت رضي الله عنها هذه الآية الكريمة .
فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئاً من الدين سواء كان في باب العقيدة أو العبادة أو غير ذلك من أمور الدين مما أوحى الله عز وجل إليه فقد قال كذباً وافترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم واتهم النبي صلى الله عليه وسلم في أمانته وفي عدالته صلوات الله وسلامه عليه .
ومما يدل أيضاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الدين كاملاً ونصح لهذه الأمة وبين لها بياناً كاملاً شافياً وافياً أنه لما حج حجة الوداع خطب الناس ووعظ الناس وكان فيما قال للناس في ذلك المقام العظيم في حجة الوداع : ( وأنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون ) فقال أصحابه رضوان الله عليهم : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه السبابة إلى السماء وقال : ( اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) ، وقد صدقوا رضوان الله عليهم فإنه بلغ ونصح وأدى الأمانة ولم يترك خيراً يقربنا إلى الله إلا أخبرنا به ولم يترك شراً يباعدنا من الله ويقربنا من ناره إلا وأخبرنا به صلى الله عليه وسلم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الأمة وهو أحرص الناس عليها أنصب نفسه وأتعبها وعرضها للأذى والقتل والطرد وغير ذلك من صنوف الأذى كل ذلك في سبيل تبليغ دين الله عز وجل إلى الناس كما أمره الله عز وجل بذلك ، لم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وأنزل الله عز وجل إليه قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) صلوات الله وسلامه عليه ، هو حريص على المؤمنين ، رؤوف بهم ، رحيم بهم صلوات الله وسلامه عليه ، يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن مثلي ومثل مات بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء فصدقه طائفة من قومه فساروا فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة فأصبحوا في مكانهم فصبحهم الجيش وأهلكهم واجتاحهم ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أنا النذير العريان ) تعبير بليغ في الدلالة على كمال الصدق والنصح والعناية فقد كان من عادة بعض العرب أنه إذا بغتهم عدو فأدركهم بعض الناس ورآهم فإنه يخلع ملابسه وينطلق إلى قومه فإذا رأوه مقبلاً عارياً من بعيد علموا يقينا أن الخطر قد دهمهم وقد اقترب منهم فأخذوا بأسباب النجاة وهكذا كان صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على إنقاذ الناس من النار ومن غضب الجبار سبحانه وتعالى فبلغ ونصح وأدى الأمانة كاملة غير منقوصة .
ومن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بعصمته فيما بلغ عن الله عز وجل .
إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى فإن الله قد ائتمنه على هذا الدين ، فبلغ الدين كاملاً وهذا مما يجب أن يؤمن به المؤمن إيماناً جازماً لا يدخله في ذلك شك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إني أكتب منك كل ما أسمع وإن قريشاً نهتني قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر وإنه يتكلم في الرضا والغضب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من هذا إلا حق ) وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم ، وقال سبحانه : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى ) فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة كاملة فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى .
ومن الإيمان به الإيمان بأنه خاتم النبيين والمرسلين ، فليس بعده نبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الله عز وجل : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( وختم بي النبيون ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) ، فمن ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو دجال كذاب مفتر على الله تبارك وتعالى ، وهكذا أيضاً من صدق من ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر خارج من ملة الإسلام والعياذ بالله .
فالواجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله عز وجل قد ختم النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم فليس بعده من نبي ولا رسول ، وإنما ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم صراحة وكما أشار إلى ذلك القرآن الكريم فإن عيسى إذا نزل في آخر الزمان إنما ينزل مجدداً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يأتي بشريعة جديدة .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي من بعده دجالون كثير كل يزعم أنه نبي، وأخبر في حديث ثوبان أنه سيخرج من بعده ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، والمقصود بهؤلاء الثلاثين الذين يكون لهم شوكة ويكون لهم أثر في إضلال الناس، وأما الذين يدعون النبوة فهم كثير تجاوزوا الثلاثين لكن الذين لهم شوكة ولهم أثر ولهم إضلال كبير في الناس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هم ثلاثون ، أو هو من باب الكثرة وأن العدد لا مفهوم له .
وقد وجد من أهل الأهواء والبدع كالقاديانية وأمثالهم من زعموا في بعض متبوعيهم أنه نبي ولبسوا على الناس وأتوهم بشبهات ، ومن ذلك مثلاً أنهم عندما جاءوا إلى هذه الآية ( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) قالوا : ليس الخاتم هنا بمعنى أنه خاتم الأنبياء وإنما معنى قوله : ( خاتم النبيين ) أي بمعنى أنه زينة النبيين ، وقالوا : إن الخاتم هنا هو من باب الخاتم الذي يلبس في الإصبع ويتزين به وهذا لا شك أنه من الترهات ، ومن الأكاذيب ، ومن التلاعب بكتاب الله عز وجل ، فالمعنى الصحيح لهذه الآية أن قوله : (وخاتم النبيين) بمعنى أن الله عز وجل ختم به النبيين فليس بعده نبي ، وكما يوضح ذلك توضيحاً جلياً قوله صلى الله عليه وسلم : ( وختم بي النبيون ) وقوله صلى الله عليه وسلم :(لا نبي بعدي) .
هذا فيما يتعلق بالحق الأول .
الحق الثاني من حقوقه صلى الله عليه وسلم :
طاعته عليه الصلاة والسلام وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه صلوات الله وسلامه عليه واتباع سنته ، وهذا الحق هو من لوازم الإيمان بنبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام .
وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة حتى بلغت أكثر من ثلاثين آية كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله ، فالمقصود أن الله عز وجل أمر أمراً قاطعاً صريحاً جلياً بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة من كتابه الكريم ، قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ، وقال سبحانه وتعالى : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ومعنى ذلك أن طاعة الرسول من طاعة الله عز وجل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل ، فطاعته طاعة لله كما أن معصية الرسول معصية لله عز وجل، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ) والحديث مخرج في الصحيح .
كذلك بين سبحانه وتعالى أن الهدى هي في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه :(وإن تطيعوه تهتدوا) ، فطاعة النبي صلى الله عليه وسلم هدى كما أن معصيته ضلال وفي ذلك يقول الله عز وجل : (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) ، وطاعته فوز وسعادة في الدنيا والآخرة يقول الله عز وجل :(ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) .
فطاعته واجب محتم على كل مسلم ، فإذا بلغك الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب عليك امتثاله ، وإذا بلغك النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب عليك يا عبد الله الانتهاء عما نهاك عنه صلوات الله وسلامه عليه .
وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة ، وهي ليست مفتقرة إلى أن يكون الأمر الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً في القرآن الكريم ، وكذلك إذا نهى عن شيء فلا يلزم أن يكون هذا الشيء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً في القرآن ، لأن طاعة الرسول تجب استقلالاً كما قال سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فأمر بطاعته استقلالاً ، وأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم استقلالاً ، وأمر بطاعة أولي الأمر طاعة تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث المقدام بن معد يْـكَرِب عند أبي داود : ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يبلغه الحديث عني فيقول لا ندري عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه) قال النبي صلى الله عليه وسلم : (وإنما حرم رسول الله كما حرم الله) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في أول هذا الحديث يقول: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) وفي هذا إشارة إلى أن السنة وحي أوحاها الله عز وجل إليه، وفي آخر هذا الحديث تصريح بأن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بمثابة ما حرم الله عز وجل ، فالسنة النبوية من حيث الحجية هي والقرآن في درجة واحدة .
فهذا الذي يجب على المسلم تجاه أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتجاه نواهيه، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه أن الاستمساك بسنته عصمة من الضلال يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس في مستدرك الحاكم يقول :(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي) وأخرجه بنحوه الإمام مالك في موطئه بلاغاً وصححه العلامة الألباني رحمه الله ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن الاستمساك بكتاب الله وبسنته صلى الله عليه وسلم عصمة من الضلال .
ولما وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر حياته موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قال له أصحابه : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) إلى آخر الحديث ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الداء وهو الاختلاف الكثير في الدين الذي سيحصل من بعده ، ثم بين لنا الدواء والشفاء من ذلك الداء ألا وهو الاستمساك بسنته صلوات الله وسلامه عليه والاستمساك بسنة الخلفاء الراشدين .
وقد أمرنا الله عز وجل أن ندعو في صلاتنا قائلين: (اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال أبو العالية رحمه الله عن الصراط المستقيم : ( هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ولما بلغ هذا التفسير الحسن البصري قال : ( صدق ونصح ) ، وهذا من تفسير الكل بالبعض فإن من معاني الصراط المستقيم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالإيمان به واتباع ما جاء به ، فالمقصود أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم التي أمرنا الله عز وجل بالسلوك عليها والاستقامة عليها والثبات عليها وبين أنها هي الطريقة الموصلة إلى جنته وإلى رضوانه ، وليس هناك من طريق توصل إلى رحمة الله عز وجل وتوصل إلى جنته غير هذا الطريق يقول الله عز وجل : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه خط في الأرض خطاً مستقيماً وخط على جنبات هذا الخط خطوطاً صغاراً عن يمينه وشماله فقال : هذا صراط الله وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليه) ثم تلا قول الله عز وجل : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
فطاعة النبي صلى الله عليه وسلم هدى ومعصيته ضلالة ، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يطيع رسول الله كما يطيع الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، ولا شك أن هذه الطاعة تفتقر إلى العلم ، فينبغي للمسلم أن يجتهد اجتهاداً بالغاً في تعلم أحكام كتاب الله وتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر استطاعته حتى يعبد ربه على بصيرة وحتى يتمكن من الاقتداء به صلى الله عليه وسلم اقتداءً صحيحاً .
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا إخوة الإسلام :
محبته صلى الله عليه وسلم ، والمحبة من أعمال القلوب هي : ميل القلب إلى المحبوب ، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد استحسان عقلي كما قرر ذلك الجهمية وتبعهم بعض من شرح الأحاديث الواردة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل لا بد أن تكون عملاً قلبياً ، أن يكون شيئاً يجده الإنسان من قلبه تجاه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات لأنها من محبة الله تبارك وتعالى ، من أصول الإيمان محبة الله عز وجل فمن لا يحب الله فليس بمؤمن ، من لا يحب الله فهو كافر والعياذ بالله ، ولهذا كان من شروط ( لا إله إلا الله ) حتى تنفع صاحبها أن يكون محباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فمحبة الرسول تابعة لمحبة الله تبارك وتعالى .
ومحبة الرسول واجبة بنص كتاب الله وبنص سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) الحديث ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكمل الإيمان الكمال الواجب ليس حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل يحب حتى يحب المؤمن نبيه صلى الله عليه وسلم محبة تفوق محبته لوالده ولولده وللناس أجمعين ، بل حتى تكون تلك المحبة فائقة لمحبة العبد نفسه وفي حديث أبي هريرة عند البخاري : ( لا يؤمن أحدكم حتى أحب إليه من والده وولده ) ، وفي صحيح البخاري أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يا عمر لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا عمر ) ، إذاً هذا الحديث مصرح بأنه لا يكمل الإيمان الكمال الواجب حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليك من نفسك .
ومن قدم محبة نفسه أو محبة والده أو ولده أو أي شيء آخر دون الله ورسوله على محبة الله ورسوله كان بذلك آثماً ، كان بذلك عاصياً ، كان في إيمانه الواجب نقص عليه أن يتوب إلى الله عز وجل منه ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، فتوعد الله سبحانه وتعالى من قدم شيئاً من هذه الخصال الدنيوية على محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله فآذنه بالعذاب وبالوعيد الشديد وهذا معنى قوله : (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ، ثم بين أن من فعل ذلك فهو من الفاسقين لمّا قال : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) دل ذلك على أن من فعل شيئاً مما ذكره الله في هذه الآية بأنه من الفاسقين يعني من الخارجين عن طاعة الله ، لكن كما هو معلوم فالفسق ينقسم في الاصطلاح العقدي في عقيدة أهل السنة والجماعة إلى نوعين : فسق أكبر مخرج من ملة الإسلام ، وفسق أصغر لا يخرج من ملة الإسلام ، فالمقصود أن الواجب على المسلم أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
ما هي علامة هذه المحبة أيها الإخوة؟
علامة هذه المحبة هي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هذه هي العلامة الحقيقية ، هذه هي الدلالة التي توضح أنك محب لله عز وجل ومحب لرسوله صلى الله عليه وسلم حباً صادقاً ، قال الله عز وجل : ( قل إن كنتم تحبون الله ) يعني ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن محبة الرسول تابعة لمحبة الله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) ، فبين سبحانه وتعالى أن العلامة الحقيقية لمحبته سبحانه هي متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعد من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وعده بوعدين كريمين : محبة الله عز وجل لهذا العبد المطيع لله ولرسوله المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم ، والفائدة الثانية والجائزة الثانية هي مغفرة ذنب ذلك المطيع لله ولرسوله المتابع لكتاب الله ولسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ،
فإذاً العلامة الحقيقية لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم هو إحسان المتابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، أما من يدعي أنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فهو زاهد في سنة الرسول ، راغب عنها ، متنكب لها ، فهذه دعوى كاذبة لا تنفعه لأن العبرة بالحقائق ليست بمجرد هذه الألفاظ التي لا يصدقها إيمان الباطن ولا عمل الظاهر .
فهذا الحق هو من أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، فالنبي أولى بنا من أنفسنا ، يجب والله أن نقدمه على أنفسنا قال الله عز وجل : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي على يديه أخرجك سبحانه وتعالى من الظلمات إلى النور ، طريقه صلى الله عليه وسلم هي الطريق التي توصلك إلى الله عز وجل ، وإلى رضوانه ، وإلى سبل السلام ، فليس أحد من الخلق أعظم منة عليك يا عبد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا معاشر المؤمنين :
تعظيمه وتعزيره وتوقيره ، وفي ذلك يقول الله عز وجل :(إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً . لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً) ، ومعنى قوله سبحانه وتعالى :(وتعزروه وتوقروه) هذا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، (وتسبحوه بكرة وأصيلاً) هذا فيما يتعلق بالله عز وجل .
والتوقير بمعنى الإعظام والإجلال والاحترام ، ولكن ينبغي أن يكون هذا التعظيم وهذا التوقير وهذا الإجلال يجب أن يكون مقيداً بقيود الشرع لا نعظم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً مبتدعاً خارجاً عما أمر الله به أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك خروج عن الصراط المستقيم وإن سماه الناس تعظيماً وتوقيراً.
والله عز وجل أمرنا أن نعظمه صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً فبين لنا في كتابه الكريم جملة من الآداب التي يجب أن يتعامل بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ سورة الحجرات عرف طرفاً من ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) ويقول سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) ، وقال سبحانه :(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) ، وقال سبحانه وتعالى في سورة النور : (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) .
فهذه بعض الآداب التي أدبنا بها ربنا سبحانه وتعالى في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآداب في حياته وبعد موته عليه الصلاة والسلام ، فكما أنه لا يجوز أن يتقدم بين يدي الرسول في حياته فكذلك لا نتقدم بين يدي سنته صلى الله عليه وسلم بعد مماته ، فلا نأمر بأمر ولا ننهى عن نهي إلا إذا كان هذا الأمر وهذا النهي قد جاء في كتاب الله أو جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا أيضاً أمرنا الله عز وجل بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا من حقوقه علينا كما قال سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ، فنصرة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته ، وكذلك هي واجبة بعد موته وذلك بنصرة سنته صلى الله عليه وسلم ، بتعلمها والعمل بها وتعليمها والدعوة إليها وبذل العمر والجهد في سبيل ذلك ، فهذا من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام لا تكون بالشعارات البراقة ولا بالصياح والصراخ والمظاهرات وإنما نصرة النبي صلى الله عليه وسلم النصرة الحقيقية هي بالإيمان به واتباعه والعمل بسنته وتعظيمها وتوقيرها ودعوة الناس إليها وبيانها للناس .
فهذا مما يدخل في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره عليه الصلاة والسلام .
ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم سنته ، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وحي أوحاه الله عز وجل إليه ، هي في الحجة كالقرآن الكريم .
ومن تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم الخضوع لها وقبولها والانقياد لها ، والحذر من سبل أهل الأهواء والضلالة الذين لا يقيمون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وزناً ، بل يقابلونها بالاستهانة والعياذ بالله .
من الفرق التي تنتسب للإسلام فرقة تسمى بالقرآنيين ، يقولون نحن نعمل بالقرآن فقط ولا نعمل بالسنة يزعمون ذلك ، وأصول هذه الفرقة قد ظهرت في آواخر عهد الصحابة ، جاء رجل إلى عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه فسمع عمران يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث فقال : دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن الكريم فناقشه عمران بن حصين مناقشة عظيمة نافعة فكان مما ناقشه رضي الله عنه وأرضاه أنه سأله : هل في القرآن أن الصلوات الخمس وأنها ظهر وعصر ومغرب وعشاء وفجر ؟ وأن الظهر أربع سرية والعصر أربع سرية وأن المغرب ثلاث ثنتان يجهر فيها وواحدة لا يجهر فيها ؟ ثم سأله عن تفاصيل الزكاة وتفاصيل الصيام ونحو ذلك فقرره وبين له أن تفاصيل هذه الأحكام لا توجد في القرآن الكريم وأن الذي تولى تفصيلها وبيانها هو النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، ومعنى ذلك أنه لا يمكن العمل بالقرآن ولا يمكن تطبيق دين الإسلام تطبيقاً صحيحاً إلا من خلال السنة النبوية ، ولذا قال بعض السلف :(السنة قاضية على القرآن) يقصد به أن السنة مفسرة وموضحة ومبينة لكتاب الله تبارك وتعالى كما قال سبحانه :(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) .
فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم قرآنيين ويزعمون أنهم يعملون بالقرآن كذبوا لأن القرآن الكريم فيه الأمر باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيه الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في القرآن ، يقول الله عز وجل :(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا) ، ويقول سبحانه: (وإن تطيعوه تهتدوا) ، فإذا كيف يزعم أنه يعمل بالقرآن من لا يرفع بسنة النبي صلى الله عليه وسلم رأساً ولا يقبل هدى الله الذي جاء به وأرسل به ، ولا تزال هذه الطائفة توجد إلى هذا العصر في زماننا هذا ، توجد في باكستان وفي غيرها ، فالمقصود أن هذه فرقة ضلالة خارجة عن الإسلام ، وهي إنما تريد التلبيس على الناس بالتمسح بالقرآن الكريم.
ومن فرق الضلالة من يزعم أنه يعظم السنة النبوية وأنه يجلها ويبجلها ولكنه في الوقت نفسه يقرر القواعد الباطلة التي يرد بها كثيراً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه ، كمن مثلاً يزعم أنه لا يقبل خبر الآحاد في باب الاعتقاد ، فإذا جاءت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم تتعلق بالأسماء والصفات أو تتعلق بالقدر أو تتعلق بعذاب القبر ونعيمه أو تتعلق بأي أمر من أمور العقيدة قال لك : لا ، هذا خبر آحاد ليس بمتواتر والعقيدة تحتاج إلى يقين واليقين لا يحصل إلا بالمتواتر ، هذه شبهة ردوا بها كثيراً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، من الناس من يزعم أن الإمام الفلاني من أئمة الحديث أو جمهور أئمة الحديث لما قرروا قواعد علم المصطلح أن تلك قواعد اجتهادية ، وأنه لا يلزمنا العمل بها، وأنه يسوغ لنا الخروج عليها والإتيان بقواعد جديدة نقبل من خلالها ما شئنا من الأحاديث ونرد من خلالها ما شئنا من الأحاديث يعني مما لا ينطبق على تلك القواعد التي اخترعوها وخرجوا بها عما قرره أئمة الحديث في القديم والحديث ، فالمقصود أن مثل هذه الدعاوى الباطلة والتي تجد رواجاً في هذه الأعصار المتأخرة ، هذه قواعد ومدارس تحيي مدارس العقلانيين ، تحيي مدارس المعتزلة الأولى الذين ردوا كثيراً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن بأساليب جديدة غاية في المكر والخبث والدهاء ، فالواجب على أهل العلم وطلبة العلم أن يبينوا للناس مثل هذه المكايد وأن يوضحوها حتى لا تنطلي على عموم المسلمين ، لاسيما أن بعضاً ممن يتبنى هذه الأفكار الضالة التي ترد بها كثير من السنن هو ممن يتصدى اليوم للدعوة إلى الله ولإفتاء المسلمين عن طريق القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام ، فالآفة بهم كبيرة جداً ، والواجب الحذر والتحذير من مثل هذه المناهج المضلة .
وكذلك أيضاً من تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرها أن لا يتكلم فيها إلا بعلم ، فإن كان عندك علم فتكلم وإلا فاسكت ، لأن الكلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالكلام على غيره ، في حديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد ، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فالكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم يترتب عليه تغيير معالم الدين بالزيادة فيه أو النقص منه ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من حديثاً يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين) وفي ضبط عند بعض أهل العلم (فهو أحد الكاذبَيْن) ولا شك أن هذا حديث خطير ، ومعناه أنك إذا نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وهذا الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم فأنت شريك يا عبد الله لمن افترى ذلك الحديث وكذبه ، فالأول اخترعه واختلقه وأنت ساهمت في نشره ، قد تقول : أنا لا أدري. هذا ليس لك بعذر كان ينبغي أن تحتاط وأن تتنبه وأن تتأكد قبل أن تضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من حديثه، وقد رأينا في هذه الأوقات ، في هذه الأيام ، في هذه المدة المتأخرة انتشار كثير من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أقول الضعيفة بل كثير من الأحاديث المكذوبة المخترعة المختلقة على النبي صلى الله عليه وسلم ، انتشارها عن طريق الإنترنت ، انتشارها عن طريق رسائل الجوال ، انتشارها عن طريق البلوتوث والوسائط المتعددة وأمثالها ، بعض الناس يريد أن يفعل خير ولكن لا يعرف طريق الخير ، يذهب إلى (خدمات الطالب) ويصور مئة نسخة مئتي نسخة أكثر من ذلك أوأقل ويطلب من صاحب المكتبة أن يوزعها على الزبائن الذين يدخلون محله ، يريد الخير وما يعلم أنه يساهم في نشر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالواجب الحذر فيما نضيفه وننسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أيضاً الكلام في مسألة التصحيح والتضعيف ، وفي مسألة شرح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجب أن يكون ذلك كله مبنياً على علم صحيح ، على وفق القواعد التي قررها أهل هذا الشأن ، لأن الكلام في التصحيح والتضعيف وفي شرح أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم بغير علم يؤدي إلى فساد عظيم ، يؤدي إلى تغيير معالم الدين وتبديله والعياذ بالله .
وكذلك من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، ولعلي أختم به هذه المحاضرة:
محبة أحبابه صلى الله عليه وسلم ، وأعني بهم محبة آل بيته وأزواجه ، ومحبة أصحابه رضوان الله عليهم ، فإن لهم علينا حقا عظيما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، ويقول ربنا تبارك وتعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) ، ويقول سبحانه وتعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً ) ، إلى غير ذلك من الآيات والنصوص التي فيها التنويه بشأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمر بإجلال وإكرام وتوقير آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، والمقصود به من آمن من أهل بيته واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام .
ومن آل بيته أزواجه والدليل على ذلك آيات سورة الأحزاب فإن الله خاطب نساء النبي في عدد من الآيات لما قال : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ) ثم قال بعد ذلك : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ، فدل ذلك على أن أزواجه صلى الله عليه وسلم كن من آل بيته ، أمهات المؤمنين لهن حق عظيم علينا يقول الله عز وجل : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) يعني في الاحترام وفي التوقير وفي التقدير ، ودلت آية أخرى على تحريم نكاحهن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده) ، وأما في المحرمية فليس أمهات المؤمنين محارم لجميع الأمة لا ، إنما هن محارم لمن كان بينهم وبينهم سبب من أسباب المحرمية.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الخلق بعد النبيين والمرسلين فإن الله عز وجل اصطفاهم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :(خير الناس قرني) وهم أصحابه رضوان الله عليهم .
وقد أثنى الله عليهم في كتابه الكريم ، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، وقد سمعنا طرفاً مما جاء في الثناء عليهم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يتولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترضون عليهم ، ويعتقدون عدالتهم ، ويكفون ألسنتهم عما جرى بينهم من الفتنة، ولا يذكرونهم إلا بالجميل، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة أو ملخصها فيما يتعلق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طعن فيهم وقدح فيهم وتنقصهم واتهمهم بالتهم الباطلة وخاض في أعراضهم فقد خالف كتاب الله وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخالف سبيل المسلمين وأوقع نفسه في ورطة كبرى لا يخرجه منها إلا التوبة الصادقة إلى الله عز وجل .
وقد حذر السلف الصالح من الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قال أبو زرعة الرازي أحد كبار علماء هذه الأمة يقول: (إذا رأيت الرجل يطعن في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق) ، لماذا ؟ الذين نقلوا إلينا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذين نقلوا إلينا هذا الدين من هم ؟ أليسوا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بلى، إذاً الذين يقدحون في أصحاب رسول الله ويتهمونهم بالفسق ، يتهمونهم بالخيانة ، يتهمونهم بالتهم الباطلة ، يريدون بذلك إسقاط الثقة بهم ، وإذا سقطت الثقة بهم ، معنى ذلك أنه سقطت الثقة بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان الأمر كالخيمة التي سقط منها عمودها ماذا يبقى منها ؟ الدين يقوم على الكتاب والسنة والذي نقلوا إلينا كتاب الله والسنة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فسقوا والعياذ بالله فمعنى ذلك أنه لا دين موجود صحيح ، لأنه يكون على هذا القول الباطل وصلنا بنقل فساق كذابين ، برأ الله أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من هذه التهم الفاجرة الباطلة .
وقد استهان كثير من الناس لا أقول من الرافضة فقط هذا الأمر عندهم مفروغ منه الطعن في أصحاب رسول الله ، لكن أقول : استهان بعض من ينتسب إلى السنة ، بل وللأسف من ينتسب إلى الدعوة إلى الله استهان بعضهم ببعض أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتجد من الناس من يتكلم على أصحابه يقول : فلان مهبول ، تجد منهم من يقول : أن فلان الصحابي وقع في الخيانة العظمى ، تجد منهم من يتهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في سطر واحد من كتاباته بست تهم ، بالنفاق وشراء الذمم والكذب والتحايل إلى غير ذلك من الصفات السيئة ، فالمقصود أنه يجب على المسلم أن يحفظ لسانه من الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يجالس وأن لا يصاحب من يخوض في أعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن وصية رسول الله لنا هي ما جاء في قوله :(إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) أخرجه الإمام الطبراني في معجمه ، يعني إذا ذكروا بالسوء ، إذا ذكروا بالسب والطعن فأمسكوا ، لا تخوضوا مع من يخوض ، بل الواجب إنكار هذا المنكر وتحذير الناس ممن يقع في مثل هذا المنكر الشنيع وفي هذا الجرم القبيح .
بقي تنبيه أخير وهو : أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيم أصحابه وآل بيته كما قلت يجب أن يكون منضبطا بضوابط الشرع فلا نغلوا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من حارب الغلو في هذه الأمة ، لما كان في حجة الوداع أمر بعض أصحابه أن يأتيه بجمار يرمي بها الجمرات فجيء له بجمار كبار فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر أن يكون الحصى الذي ترمى به الجمرات كحصى الخذف حصى صغير ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) ، وقال ربنا تبارك وتعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) .
وقد هلكت اليهود والنصارى بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين ، هلكت النصارى لما غلت في عيسى ، وهلك اليهود لما غلو في عزير ، وهلك كثير من هذه الأمة لما غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلوا في آل بيته ، وغلوا في عدد من أصحابه رضوان الله عليهم .
وهذا الغلو يتفاوت من الغلو ما هو شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام كمن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم ويستغيث به ويناديه ويذبح له وينذر له ، وكذلك أيضاً قد يحصل مثل هذا مع بعض الأولياء والصالحين يستغيث بهم بعض من يزعم أنه يحبهم ويعظمهم فيصرف لهم أنواعاً من العبادة ، والعبادة حق خالص لله لا يجوز أن تصرف لأحد سواه سبحانه وتعالى ، ومن الغلو ما هو دون ذلك .
ولما جاء وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول عبد الله بن الشخير قالوا له : أنت سيدنا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( السيد الله ) قالوا : أنت خيرنا وأعظمنا فضلاً وأطولنا طولاً أو كما قالوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) ، فإذاً النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإطراء ، نهى عن التمادي في مدحه ، لأن التمادي فيه قد يجر إلى الوقوع في المحذور ، كما حصل في الأمة بعد أن حصل التهاون وجدنا من يمدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراً ونثراً بأي شيء يمدحه ؟ يمدحه بما لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى ، كما يقول صاحب البردة :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فـضلاً وإلا فقـل يا زلة القدم
هذا الذي يقول إن من جود النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا والآخرة ، وأن بعض علمه علم اللوح والقلم ، وأنه هو الذي ينقذ الهلكى يوم القيامة ، ماذا أبقى لله سبحانه وتعالى ؟
فالمقصود أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره ومحبة أصحابه وآل بيته والصالحين من هذه الأمة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يكون على ما كان عليه السلف الصالح لا إفراط ولا تفريط ، لأن ذلك كله يؤدي بصاحبه إلى الهلاك والعياذ بالله .
هذه بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ، كما أسأله سبحانه أن يوفقني وإياكم للقيام بهذه الحقوق قدر الاستطاعة ، إنه جواد كريم ، والله أعلم .