العنوان : موافقة قرار حظر التجول للقواعد الشرعية محاضرة
محاضرة بعنوان
موافقة قرار حظر التجول للقواعد الشرعية
محاضرة ضمن البرنامج الذي نفذه فرع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في منطقة جازان بعنوان (موافقة قرارات خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في جائحة كورونا لأدلة الكتاب والسنة وواجب المواطن والمقيم تجاهها). من السبت 11/ 8 إلى الاثنين 20 / 8 / 1441ه وأذيع عبر إذاعة زدني العلمية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فإن نعم الله تعالى خلقنا لعبادته وحده فقال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وأمرنا خالقنا ومولانا جل وعلا أن نتقيه حق تقاته فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وقال تعالى (يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) وتقوى الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وقد أمرنا الله تعالى بطاعته وبطاعة رسوله ﷺ فقال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]
ومن طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ طاعة ولي الأمر وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]
وقوله ﷺ «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» متفق عليه من حديث ابن عمر.
وقوله ﷺ : «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» متفق عليه من حديث أبي هريرة وفي لفظ لمسلم “ومن أطاع الأمير فقد أطاعني”.
وقد أوجب الله طاعة ولاة الأمور لما في طاعتهم من المصالح الكبيرة والمنافع العظيمة، فباجتماع الرعية على ولي أمرهم ولزوم طاعته والوفاء له بحقوق بيعته يتحقق لها اجتماع الكلمة وائتلاف القلوب والتعاون على البر والتقوى ، والأمن على الأنفس والأعراض والأموال، والتفرغ لمصالح دينهم ودنياهم، إلى غير ذلك من المصالح التي لا يحصيها إلا الله تعالى.
وطاعة ولي الأمر مقيدة بما ليس بمعصية كما قال تعالى {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال البغوي: أَيْ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ. وقال البيضاوي: “والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق”.
وعَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ الله، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» متفق عليه.
فإذا أمر ولي الأمر بأمر ليس فيه معصية لله تعالى وجبت طاعته وحرمت معصيته لأن طاعته من طاعة الله ورسوله ومعصيته من معصية الله ورسوله ﷺ كما تقدم.
ويدخل في ذلك تقييد ولي الأمر شيئا من المباحات للمصلحة العامة كما في قرار حظر التجول كلياً أو جزئياً الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أيده الله وقاية لشعبه ورعيته من مواطنين ومقيمين من مرض كورونا الوباء الذي يجتاح العالم في هذه الأيام.
وذلك أن هذا الفيروس ينتشر انتشارا سريعا بالمخالطة عن طريق السعال والتنفس والمصافحة، لذا اتخذت الدولة وفقها الله من منطلق حرصها على المحافظة على أرواح الناس وحياتهم جملة من الإجراءات كتعليق المدراس والجامعات، وتعليق الجمعة والجماعات، وإيقاف بعض الأنشطة التجارية ثم حظر التجول جزئيا وحظر التجول كليا في بعض المدن والأحياء.
وقد لقي هذا القرار الإشادة والتأييد من هيئة كبار العلماء وأوصت المواطنين والمقيمين بضرورة الالتزام بجميع الإجراءات والتدابير التي تأمر بها الدولة لمكافحة هذا الوباء وحماية الأرواح من خطره.
أيها الإخوة والأخوات من المستمعين والمستمعات:
إن هذا الإجراءات الموفقة المسددة النابعة من حرص شديد ورحمة ورفق من لدن خادم الحرمين الشريفين وولي عهده برعيتهم وشعبهم والمقيمين على ثرى هذا الوطن المبارك إجراءات متوافقة بحمد الله مع أدلة الشرع وقواعده، ونحن يكفينا من جهة شرعية ما صرحت به هيئة كبار العلماء وما أفتى ووجه به سماحة مفتي المملكة حفظه الله من تأييد هذه الإجراءات وشكر ولاة الأمر عليها ووصيتهم بالتزامهم وبيانهم أن مخالفتها معصية يأثم بها من تعمدها. ولكن من باب التأكيد والتذكير و(الذكرى تنفع المؤمنين) تأتي هذه الكلمة وما شاكلها من الكلمات والمحاضرات في هذا البرنامج المبارك[1].
ولما كان موضوع هذه المحاضرة هو “موافقة قرار حظر التجول للقواعد الشرعية” فهذه جملة من القواعد الشرعية التي جاء هذا القرار موافقا لها بل منبثقاً عنها.
فمن القواعد الشرعية التي تدل على مشروعية قرار حظر التجول:
أولاً: ما قرره أهل العلم أن “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” فمسؤولية ولي الأمر أن يراعي مصلحة رعيته، ولا شك أن الحفاظ على صحة الرعية وسلامة أرواحها من هذا الوباء الجارف وذلك بمنعهم من التجمعات والخروج من البيوت إلا في الأحوال المستثناة من أعظم المصالح التي تجلب لهم السلامة، وتدرأ عنهم المخاطر بإذن الله.
ثانياً: القاعدة الكبيرة التي تقول: “لا ضرر ولا ضرار” وهي نص حديث أخرجه ابن ماجه وغيره عن النبي ﷺ. وما يتفرع عنها من القواعد الفقهية ولا سيما القاعدة المعروفة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”
فحرية الخروج من البيت في أي وقت شاءه الرجل أو المرأة لا شك أنه مصلحة ولكن هذه المصلحة عارضتها مفسدة كبيرة ممرضة للأبدان مهلكة للأرواح مدمرة للنظام الصحي في البلاد لو استشرى المرض نسأل الله أن لا يقدر ذلك.
فمن واجبات ولي الأمر وحقوق رعيته عليه أن يحوطهم برعايته وعنايته وأن يسعى في دفع الضرر عنهم، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد وكانت المفاسد أعظم وأكبر من تلك المصالح أُهدرت المصالح وروعي درء المفاسد، لأن الشريعة الإسلامية تغلب جانب المنهيات على جانب المأمورات كما رخصت في التخلف عن الجماعة للخوف والمرض درءاً لمفسدة الضرر على الحياة أو الصحة إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
وهذه القاعدة من محاسن الشريعة الإسلامية ومن أسرار مرونتها وصلاحيتها للبشرية إلى قيام الساعة
ومن أدلة هذه القاعدة
أن النبي ﷺ نهى عن الدخول إلى الأرض الموبوءة بالطاعون ونهى من فيها عن الخروج منها فراراً منه. أخرج البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد عن النبي ﷺ أنه قال «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا»
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ – وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ – فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
فالدخول والخروج مصلحة ولكن لما عارضت هذه المصلحة مفسدة كبيرة ربما تفضي إلى القضاء على أنفس كثيرة روعيت هذه المفسدة وألغيت مصلحة حرية الدخول والخروج.
ثالثاً: قاعدة “أن لولي الأمر تقييد المباح لمصلحة شرعية”.
فخروج المرء من بيته وتجوله متى شاء من المباحات فإذا رأى ولي الأمر أن يقيد خروج الناس من بيوتهم بقيود معينة في وقت معين لمصلحة معتبرة شرعاً فله ذلك، وهو من التوسعة عليه في تصرفاته وسياسته التي فيها مصلحة للرعية، ومما يلزم الرعية طاعتُه فيه، ومن هذا الباب تحديد سرعة السير، وتحديد أوقات للصيد، ووضع بعض الضوابط للزواج من الخارج، إلى غير ذلك من الأنظمة الكثيرة التي لا يكاد ينفك عنها الناس لما فيها من المصلحة العامة للمجتمع للوطن وأهله.
ومما يَستدل به بعض الباحثين على هذه القاعدة نهي النبي ﷺ عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام لأجل بعض فقراء البادية الذين قدموا المدينة أيام الأضحى لأجل المعونة والرفد، فنهى النبي ﷺ عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث حتى يواسَى بها أولئك الفقراء الغرباء، فلما كان بعد ذلك قال لهم ﷺ : “كلوا وادخروا” وبين لهم أنه إنما نهاهم عن الادّخار _ وهو مباح_ في تلك السنة لأجل تلك الحكمة فلما زالت العلة زال المنع وعاد الإذن كما كان.
وهكذا نجد في سير الخلفاء الراشدين أمثلة متعددة ومنها منع عمر لبعض كبار الصحابة أن يتزوجوا من أهل الكتاب لمصلحة رآها ومفسدة خشيها مع أن الزواج من نسائهم مباح بنص كتاب الله.
ولما قدم الأحنف بن قيس على عمر أبقاه في المدينة عاماً كاملاً لم يأذن له بالخروج منها وذلك بقصد اختبار حاله.
رابعاً: الأخذ بالأسباب.
فالأخذ بالأسباب عبادة ، وفي ذلك يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: “الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع”[2]. اهـ. مجموع الفتاوى (1/ 131)
ويقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية: ” وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّوَكُّلَ يُنَافِي الِاكْتِسَابَ وَتَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ إِذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ! وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ: مِنْهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مُسْتَحَبٌّ، وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ حَرَامٌ، كَمَا قَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْمُتَوَكِّلِينَ، يَلْبَسُ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لِلِاكْتِسَابِ[3]. اهـ. شرح الطحاوية – ط دار السلام (ص: 270)
وفي السنة العملية للنبي ﷺ نجده يمنع أحد المجذومين الذين وفدوا عليه إلى المدينة من الطائف ليبايعه على الإسلام يأمره بالبقاء في رحله وينهاه عن الدخول إليه فعن عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ. رواه مسلم.
وفي السنة القولية قال ﷺ «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري.
ففي هذين الحديثين الصحيحين تشريع الأخذ بالاسباب للوقاية من مرض الجذام وذلك باحتناب مخالطة المجذوم لما عرف من عادة هذا المرض أنه يعدي بالمخالطة بإذن الله.
ومن هنا جاء قرار ولي الأمر بالمنع من التجول وقاية من الاختلاط بمن يحمل فيروس كورونا لما عرف من طبيتعه أنه بالغ السرعة في الانتشار بسبب المخالطة.
أيها الإخوة والأخوات:
إذا عرفنا أن هذا القرار وغيره مما اتخذ لحماية المجتمع من الأخطار الكبيرة التي تهدد حياتهم وصحتهم أنها قرارات حكيمة متوافقة مع الشرع الحكيم والعقل السليم وأن مبادرة ولاة أمرنا إلى اتخاذ هذه الإجراءات الحازمة في وقت مبكر هو مما غبطتنا عليه كثير من الشعوب والدول والحمد لله على توفيق الله لهم لذلك.
أقول إذا عرفنا أن هذه الإجراءات والقرارات متوافقة مع الشرع المطهر فعلينا تجاهها ما يلي:
أولاً:
التعبد لله تعالى بالتزام جميع التوجيهات التي صدرت وتصدر عن القيادة الرشيدة في هذا الباب تديناً لله تعالى وطلباً للمثوبة والأجر، قبل أن يكون القصد طلباً للصحة والسلامة، أو خشية من العقوبات، بل علينا أن نلتزم بما أمرنا به ولو لم ترتب الدولة عقوبة على المخالفة.
وأن نكون كما كان سلفنا الصالح سامعين مطيعين لولاة أمورهم تديناً لله وتعبداً له فعن
عبد الله بن الصامت الغفاري رحمه الله: لما قدم أبو ذر على عثمان قال: يا أمير المؤمنين مر بالباب فليفتح حتى يدخل الناس، ثم قال: يا أمير المؤمنين أتحسب أني من قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، هم شر الخلق والخليقة، والله لو أمرتني أن أقعد لما قمت أبدًا، ولو أمرتني أن أقوم لقمت فما قعدت أبدًا ما أعانتني رجلاي، ولو أوثقتني على بعير ما أطلقت نفسي حتى تكون أنت الذي تطلقني” أخرجه الطيالسي وأبو عوانة في مستخرجه واللفظ له.
فهذا الصحابي الجليل يقسم بالله لو أن عثمان قيّد حركته فمنعه من القيام لما جلس ولو منعه من الجلوس لقام أبداً ما دامت رجلاه تحمله ، ولو قيّده لما فكّ قيده حتى يكون عثمان هو من يطلق قيده فرضي الله عنهم وأرضاهم .
ومما يروى من الأخبار الحسنة في هذا الباب المنسوبة لبعض الصالحين الأخبار التالية:
- ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن عبد الحميد بن عبد الله بن يسار قَالَ: لما حبس ابن سيرين _يعني التابعي الجليل محمد بن سيرين_ في السجن قَالَ له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك فإذا أصبحت فتعال. فقال ابن سيرين: لا والله، لا أعينك على خيانة السلطان. قال الخطيب قلت: وكان حبس ابن سيرين في سبب دين ركبه لبعض الغرباء”[4] اهـ تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (2/ 418)
- ما أخرجه مالك في الموطأ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ، وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَقَالَ لَهَا: يَا أَمَةَ اللهِ. لاَ تُؤْذِي النَّاسَ. لَوْ جَلَسْتِ فِي بَيْتِكِ. فَجَلَسَتْ. فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذلِكَ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ، قَدْ مَاتَ، فَاخْرُجِي. فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ حَيّاً، وَأَعْصِيَهُ مَيِّتاً”[5]. موطأ مالك ت الأعظمي (3/ 625)
- ما نقله الذهبي في تاريخ الإسلام في ترجمة أبي وهب القرطبي الزاهد. [المتوفى: 344 هـ] أحد المشهورين بالأندلس. فقال : “قَالَ القاضي يونس: وأخبرني ثقة من أخواني، عَنْ رجلِ كَانَ يَصْحبُه أنّه قَالَ: بتُّ عنده فِي مسجدٍ كَانَ كثيرًا ما يأوي إِلَيْهِ بقرب حوانيت ابن نُصَيْر بقُرْطُبة. فلمّا كَانَ فِي الليل تذكر صديقًا لَهُ من الصالحين فقال: ودِدْتُ أن نكون معه اللّيلة. فقلت: وما يمنعنا من ذَلِكَ؟ ليست علينا كسْوة نخاف عليها، إنما هي هذه الجبيبات، فاخرج بنا نحوه. فقال لي: وأين العلم، وهل لنا أن نمشي ليلًا ونحن نعلم أنّ الْإمَام الَّذِي ملكه اللَّه أمر المسلمين فِي هذه البلدة قد منع من المشي ليلًا، وطاعته لنا لازمةٌ؟ ففي هذا نقضٌ للطاعة وخروج عمّا يلزم جماعة المسلمين. فعجْبتُ من فقهه فِي ذَلِكَ”[6] . تاريخ الإسلام (7/ 812)
ففي هذه الأخبار تنبيه لما كانوا عليه من الالتزام بأنظمة ولي الأمر التي فيها تقييد لحرية الحركة لمصلحة لأسباب اقتضت ذلك وتعبدوا لله بالتزامهم بها. وهكذا ينبغي أن نكون.
ثانياً:
أن نشكر الله تعالى الذي منّ علينا بهذه الولاية الحكيمة الرحيمة الحريصة على شعبها ومن يقيم على أرضها من غيرهم بل وسعت شفقتها حتى المخالفين لأنظمة الإقامة والعمل فأمرت بعلاجهم مجاناً دون أي مساءلة أو تبعات!! فالله أكبر ما أعظم هذه النظرة الرحيمة الكريمة. وبمثل هذا الإحسان الذي ليس غريباً على قيادتنا يدفع الله عن بلادنا _إن شاء الله _ كثيراً من الشرور ويغدق بها عليه كثيراً من الخيرات فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
وقد شاهدنا آثار التباطؤ والإهمال وعدم تقدير الأمور حق قدرها كيف جرّ على كثير من الدول والشعوب المآسي والمصائب وتفشي الأمراض وكثرة الوفيات وما ترتب على ذلك من الأضرار الأمنية والاقتصادية وغيرها فالحمد لله حمداً كثيراً .
ثالثاً:
علينا جميعاً أن نتعاون مع ولاة أمرنا في إنجاح خططها وإجراءاتها الرامية لمكافحة هذه الوباء وتقليل أخطاره وتضييق دائرة آثاره وذلك بالالتزام بالأنظمة في أنفسنا وبإلزام أولادنا وأهلينا بها.
وأن ننشر ثقافة الالتزام بها عبر وسائل التواصل بنقل المواد العلمية والتثقيفية الصحيحة الموثوقة إلى قوائم الأهل والأصدقاء والزملاء الذين نتواصل معهم عبر وسائل التواصل.
رابعاً:
أن نحذر من فئتين تنشط عبر وسائل التواصل:
الفئة الأولى: أولئك المشكوكون المغرضون المشيعون للأخبار الكاذبة المرجفة بقصد الإساءة لجهود الدولة وفقها الله وإظهارها بمظهر الفشل والعجز، أو بقصد التشكيك في مشروعية الإجراءات التي اتخذتها وأنها من باب الصد عن ذكر الله وعن عبادته ونحو ذلك من الإفك والباطل.
الفئة الثانية: أولئك الذين يدعون بالقول أو بالعمل إلى عدم الالتزام بهذه الإجراءات من خلال ما ينشرونه من التغريدات أو مقاطع فديو لأنفسهم وهم يتجولون في وقت الحظر، أو يصورون أنفسهم وقد جلبوا إلى بيوتهم بعض ما منعته الدولة كالحلاقين ونحوهم. يفعلون ذلك من باب التفاخر بأنهم لم يلتزموا بالحظر، أو من باب تشجيع متابعيهم ليقلدوهم.
فعلينا جميعاً أن نحذر هذه الأصناف وأمثالهم ممن يحاول إفشال الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة لمصلحتنا جميعاً.
وفي الختام أتوجه بالشكر بعد شكر الله تعالى إلى وزارة الشؤون الإسلامية بقيادة معالى الوزير الموفق المسدد الشيخ عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ على جهوده الكبيرة في نشر الدعوة إلى الله وتشجيعه للدعاة للبذل والعطاء في باب النصح والإرشاد وتوعية الناس فجزاه الله خير الجزاء وبارك في علمه وعمره ووزارته.
كما أشكر فرع الوزارة بمنطقة جازان ممثلا في فضيلة مديره الشيخ أسامة بن شيخنا ووالدنا الشيخ زيد المدخلي أشكره على مبادرته بهذا البرنامج المبارك وإفساحه المجال للمشاركة فيه، والشكر موصول لجميع الفريق الذي يعمل تحت إدارته.
كما أسأل الله سبحانه أن يوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين لكل خير وأن يصرف عنهم كل شر وأن يبارك في جهودهم وأن يصلح بهم البلاد والعباد.
وأن يرفع الله هذه الغمة وأن يكشف هذه الكربة بلطفه ورحمته وكرمه عن المسلمين خاصة وعن الناسة عامة إنه سميع مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفقير إلى عفو ربه
د. علي بن يحيى الحدادي
الاثنين
12/8/1441هـ