العنوان : محاضرة تحريم الغلول والفساد المالي
محاضرة تحريم الغلول والفساد المالي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فهذه المحاضرة التي هي بعنوان (تحريم الغلول أو الفساد المالي) تأتي ضمن مبادرة (حماية العمل الخيري من التنظيمات الإرهابية) ولا شك أنه موضوع بالغ الأهمية جدير بالعناية لأن استشراء هذا الفساد يجر إلى مفاسد كبيرة شديدة الخطورة تؤثر على الناس في اقتصادهم حيث يستولي على المال من لا يستحقه، ويمنع منه مستحقه، كما يؤدي إلى تبديد المال العام وإضاعته وإرهاق كاهل الدولة وعجزها عن تحقيق مصالح شعبها.
كما أن التنظيمات الإرهابية تسوغ لأتباعها نهب المال العام انطلاقاً من تكفيرهم الدول الإسلامية واستحلالهم دماءها فضلاً عن أموالها، وانطلاقا من القاعدة الخبيثة التي تقول إن الغاية تبرر الوسيلة فيلقنون الأتباع أنه ما دامت غايتهم الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية في زعمهم فكل وسيلة تقدمهم خطوة نحو هذه الغاية فهي مباحة في نظرهم.
لذلك كان من المهم أن نستذكر ونذكر بحرمة الغلول وحرمة الفساد المالي وما ورد فيه من الوعيد فإن الذكرى تنفع المؤمن وتعلم الجاهل وتوقظ الغافل وتذكر الناسي.
والغلول أيها الإخوة هو الخيانة ويطلق ويراد به الخيانةَ في الغنيمة فمن أخفى شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها ولم يضعها فيها فهو غال. و كذا الفساد المالي لا تنفك صوره عن خيانة الأمانة التي أؤتمن عليها هذا الفاسد فساداً مالياً فمن صوره الرشوة والاختلاس والسرقة من المال العام وابتزاز المراجعين، وغسيل الأموال وقبول الموظف للهدايا، والإهمال والتقصير الذي يؤدي إلى تبديد المال العام وإهداره، إلى صور كثيرة يطول عدها.
أ_ أهمية المال وبعض الأسس الإسلامية في شأنه:
لا شك أن المال هو أحد هم عصب الحياة وقد جعله الله قياماً لمصالح الناس فقال تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) قال ابن كثير : “يَنْهَى تَعَالَى عَنْ تَمْكين السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ: تَقُومُ بِهَا مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا” وقال البغوي : ” أراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به. قال الضحاك: “به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وبه فكاك الرقاب من النار”. وقال غيرهما ” أي تقومون بها وتنتعشون”. وهذا واقع المال فالإنسان يحتاج إلى طعام يغذي بدنه وينميه، ويحتاج إلى سكن يحفظه ويؤيه، ويحتاج إلى لباس يستر عورته ويتزين به، ويحتاج إلى نفقة ليتعلم ويحتاج إلى مال ليتداوى به إذا مرض ويحتاج إلى المال لينفق على من يعول وهكذا في حاجات لا تكاد تنقضي، وكلها أو جلها لا يمكنه الحصول عليها إلا بالمال.
ولذا كان من طبيعة النفس البشرية وجبلتها حب المال كما قال تعالى (وإنه لحب الخير لشديد) يعني بالخير المال ، وقال تعالى (وتحبون المال حباً جماً) أي كثيراً . وفي الأعم الأغلب أن المال لا يكتسب إلا بجهد وتعب ونصب أياً كانت طريقة الكسب عملاً مهنياً أو مكتبياً في قطاع عام أو قطاع خاص، وفي الأعم الأغلب أيضاً أن المال المكتسب يكون مقداره دون ما يتطلع إليه هذا المكتسب إما لكونه أقل من حاجته فعلياً أو لكونه يتطلع للمزيد من الراحة والرفاهية.
ومن هنا تميل النفوس الفاسدة المنحرفة عن الحق إلى كسب المال من خلال الطرق المحرمة شرعاً أو الممنوعة نظاماً وقانوناً لكونها توفر أموالاً كثيرة في وقت وجيز ودون جهد كبير يبذل فيها.
فلو ترك الناس وأهواؤهم في هذا الباب لضاعت الأموال وانهار الاقتصاد ولهلك الناس جوعاً وفقراً.
لذلك جاءت الشريعة الإسلامية بأحسن نظام وأكمله وأتمه في باب الأموال كما هو الشأن في كل ما جاءت به والحمد لله. وذلك بأن أوضحت أولاً الغاية من المال والهدف منه، ثم أوضحت الطرق الشرعية المباحة لاكتساب المال، ثم أوضحت الوجوه الصحيحة في إنفاقه جهة ومقداراً، وبينت مال من التزم بها من الأجر والثواب مع مصالحه الدنيوية العاجلة، ثم بينت الطرق المحرمة في اكتسابه،كما قررت العقوبات الدنيوية والأخروية لمن اكتسبه من غير وجه حق أو منع مستحقه بغير وجه حق أو أسرف وبذر وأضاع بغير وجه حق.
وتوضحياً مختصراً لهذه الفقرات أقول:
أباح الله لعباده طلب الرزق وأمرهم به كما قال تعالى (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) وقال تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقال تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقال ﷺ (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال ﷺ «أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» [حم طب ك] فهذا في باب الحث على اكتساب المال من وجه مباح والترغيب فيه.
وقال تعالى آمراً بالاعتدال في الإنفاق ناهياً عن البخل والإسراف (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) وقال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 67]
وقال تعالى مبيناً أن المال وسيلة إلى التقرب به إليه والتزود منه للدار الآخرة {الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 22، 23] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [فاطر: 29، 30] {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] وقال قوم قارون لقارون {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } [القصص: 76، 77]
فمن اكتسب المال من وجه حلال وأنفق منه في وجه مباح باقتصاد واعتدال، وأدى حق الله وحق الخلق عليه فيه وقدم منه لآخرته فهذا هو السعيد بماله.
وأما من اكتسبه من وجه حرام أو أنفقه في وجه حرام أو منعه عن مستحقه بغير وجه حق فهذا الذي يكون ماله وبالاً وحسرة عليه والعياذ بالله.
ومن تأمل الآيات والأحاديث الواردة في باب الأموال ولاسيما في الوعيد على اكتسابها بغير وجه حق أو منعها من المستحق كان في ذلك أبلغ رادع له عن الفساد المالي بجميع صوره لأنها تملأ قلب العبد رهباً وخوفاً وخشية من الله فالوعيد شديد، والحساب عسير، والله تعالى مطلع عليم خبير، والرقيب العتيد يحصيان ويسجلان فأين المفر وأين المهرب ولو نامت أو غفلت أعين الرقباء من البشر أو أفلت العبد من حساب الدنيا وعقابها.
ب_ من صور الفساد المالي وما ورد فيها من الوعيد:
أولاً: الرشوة وهي معروفة مشهورة وقد تسمى من باب التمويه هدية أو بخشيشا أو أتعابا أو عمولة أو غير ذلك من الأسماء، والأسماء لا تغير من الحقيقة شيئاً
قال تعالى في شأنها {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لَعنَ رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الراشي والمُرْتَشِي” وفي لفظ له “لعنةُ الله على الراشي والمرْتَشي”. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: الرِّشْوَةُ في الحُكْمِ كُفْرٌ، وهي بينَ الناسِ سُحْتٌ” يعني كفراً أصغر.
وعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ} رَوَاهُ أَحْمَدُ
وعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ” ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» بَصَرُ عَيْنِي وَسَمْعُ أُذُنِي متفق عليه.
ففي هذه النصوص النهي عن الرشوة ، وأنها كبيرة من كبائر الذنوب وأن أطراف الرشوة ملعونون بلعنة الله ورسوله ﷺ وأن الرشوة لا يتغير حكمها بتغير اسمها فسواء سميت رشوة أو هدية فالحكم فيها واحد.
ومن آثار الرشوة السيئة أنها تجعل الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً كما تؤدي إلى تقديم من حقه التأخير وتأخير من حقه التقديم، كما أنها من أسباب تعطيل التنمية ومن أسباب انهيار المباني والمنشآت بعد وقت قصير من إنشائها، وتعطيل المشاريع التي أنفقت عليها الملايين أو أكثر إلى غير ذلك من مفاسدها.
ثانياً: الغلول من الغنيمة ويدخل فيها الخيانة في كل عمل يتولاه الإنسان:
قال تعالى «وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»
قال ابن سعدي : “الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، [والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان] وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، ثم قال في معنى قوله {وما كان لنبي أن يغل} أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.ثم ذكر الوعيد على من غل، فقال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} أي: يأت به حامله على ظهره، حيوانا كان أو متاعا، أو غير ذلك، ليعذب به يوم القيامة” أهـ
وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الأنفال: 27، 28] قال البغوي (3/ 348) : “قال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أمانتكم.
وقال ابن عباس: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله، والأعمال التي ائتمن الله عليها.
وقال قتادة: اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله عز وجل ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها”.
وقال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا{ قال البغوي : “قال بعضهم: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير”.
ج- الوعيد على الخيانة والغلول والفساد المالي:
تعدد صور الوعيد على الفساد المالي فمنه ما يتعلق بالدنيا ومنه ما يتعلق بالبرزخ ومنه ومنه ما يتعلق بالآخرة وهذه بعض صور الوعيد دون استقصاء:
- الوعيد بعذاب القبر
عَنْ عُمَرَ قَالَ: {لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلًّا إنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ، قَالَ: فَخَرَجْت فَنَادَيْتُ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ}. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: {كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا إِلَّا الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ وَالْأَمْوَالَ قَالَ: فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ وَادِي الْقُرَى وَقَدْ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا». فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ» أَوْ قَالَ: «شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» رواه أبو داود بمعناه. والشراك الحبل الذي على النعل يدخل تحته ظهر القدم.
فهؤلاء صحابة كرام حصل منهم غلول يسير وهم في جهاد مع رسول الله ﷺ واستشهدوا تحت رايته ﷺ ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن يطهروا مما وقع منهم في حياتهم البرزخية. فكيف بغيرهم ممن لم يتهيأ لهم شيء من الفضل الذي اختص به صحابة رسول الله ﷺ إذا غلوا وخانوا والعياذ بالله.
- الوعيد بالفضيحة والخزي يوم القيامة على رؤوس الاشهاد:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ مِنْ الْمَقَاسِمِ، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْبَعِيرِ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَرَدَةً -يَعْنِي وَبَرَةً- فَجَعَلَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا مِنْ غَنَائِمِكُمْ، أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَشَنَارٌ وَنَارٌ”. سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط (4/ 113) والشنار هو الْعَيْبُ وَالْعَارُ. مختار الصحاح (ص: 169)
- الوعيد بمساواة إثم المعتدي على الصدقات بإثم مانع الزكاة:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا» رواه الترمذي
جاء في أحد تفسيرات العدوان هنا هو أن يأخذ عامل الصدقة الصدقة ثم يعطيها غير مستحقها فكيف إذا أخذها لنفسها، وهذا وهذا وعيد شديد حيث سوي بينه وبين مانع الزكاة مع ما في منع الزكاة من الوعيد الشديد والعياذ بالله.
- من الوعيد بتحريم الجنة عليه واستحقاقه دخول النار:
فمن أكل حراماً حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار لكن على القاعدة المعروفة عند أهل السنة والجماعة في نصوص الوعيد:
وفي ذلك يقول ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ لَحْمًا نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» أخرجه الحاكم وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ”
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ» سنن الدارمي (3/ 1827)
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» أخرجه البخاري.
وفي رواية الترمذي: «إن هذا المال خَضِر حُلْو، منْ أصابه بحقِّه بُورِك له فيه، ورُبّ متخوِّض فيما شاءت نفسُهُ من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار». فأكل الحرام الخبيث يفسد القلب وإذا فسد القلب فسد العمل فكانت أعماله أعمال أهل النار حتى يدخلها. ويوضح هذا ما جاء في حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول – وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيهِ – «إنّ الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعِرْضهِ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يَوشك أن يرتَعَ فيه، ألا ولكِّل ملك حمى، إلا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلَحتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وَهِي القلبُ» متفق عليه.
- الوعيد برد دعائه وعدم استجابته
قال ﷺ : إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟. ” صحيح مسلم (3/ 85)
فأكل الحرام من أسباب رد الدعاء وأسباب عذاب القبر والعذاب في عرصات القيامة والعذاب في النار كما أن الله عز وجل قد يعجل لهذا المفسد العقوبة في الدنيا بمحق بركة ماله أو بخسارة تذهب بما جمع من حلال وحرام أو بفضحه وتسليط حكم الحق والعدالة عليه.
د- من هدي النبي ﷺ في مكافحة الفساد المالي:
كان من هدي النبي ﷺ في الوقاية من الفساد المالي أنه إذا أراد أن يولي عاملاً ذكره بتبعات التقصير المالي في عمله وخوفه الله والدار الآخرة حتى يقدم على بصيرة أو يعتذر عن عمله قبل الشروع فيه فعن أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه -: قال: «بعثني رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- ساعِياً، ثم قال: انْطَلِقْ أَبا مسعود، لا أُلْفِيَنَّكَ تجيء يوم القيامة على ظهرك بعير من إِبل الصدقة له رُغَاءٌ قد غَلَلْتَهُ، قال: فقلت: إِذا لا أنطلق، قال: إِذا لا أُكْرِهُكَ» . أَخرجه أبو داود
وعن عدي بن عَميرة الكندي – رضي الله عنه -: قال: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «من استعملناه منكم على عملٍ، فَكتَمَنَا مِخْيَطاً فما فوقه، كان غُلُولاً، يأتي به يوم القيامة. قال: فقام إليه رجلٌ أسودُ من الأنصار، كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبَل عَنِّي عملك؟ قال: ومالك؟ قال: سمعتُك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عمل فَلْيَجىءْ بقليله وكثيره، فما أُوتيَ منه أَخذَ، وما نُهيَ عنه انتهى» . أَخرجه مسلم، وأبو داود.
كما كان من هديه ﷺ محاسبة عماله والمقصود بالعمال يعني الأمراء وكذا من يوليهم جمع الزكوات وتفريقها على مستحقيها كما تقدم في حديث ابن اللتبية رضي الله عنه.
فمن ولي شيئاً من الوظائف والأعمال الحكومية أو الخاصة فليستحضر هذه المعاني وليجعلها نصب عينيه وليعلم أن فتنة المال فتنة شديدة حتى قال ﷺ “إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ” رواه الترمذي (4/ 147) عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ
ولنتذكر أنه كلما تأخر الزمان عن زمان النبوة قلت الأمانة وكثرت الخيانة واستهان كثير من الناس بشأن المال كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عنه ﷺ أنه «يأتي على الناس زمان لا يُبالي المرءُ ما أخذَ منه: أمِنَ الحلال، أم من الحرام؟»
والإنسان لا يدري كيف يكون أمام فتنة المال هل يثبت أم يضعف وتزل به القدم ، فإذا عوفي فليحمد الله وإذا ابتلي بالعمل فليتق الله وليراقبه وليجاهد نفسه وليبشر بخير الدنيا والآخرة قال ﷺ «العامِلُ على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله، حتى يرجع إِلى بيته». أخرجه الترمذي، وأَبو داود من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
وقال ﷺ «إنَّ الخازِنَ المسلِمَ الأمينَ الذي يُعطي ما أمِرَ به، فيعطيه كاملاً مُوَفَّرًا، طَيِّبَةً به نَفْسُهُ، فيدفَعهُ، إلى الذي أمِرَ له به، أحدُ المتَصَدِّقِينَ» متفق عليه.
ومن زلت به القدم فيما مضى فعليه أن يستدرك الفرصة ما دام حياً قبل فوات الآوان وذلك برد ما أخذ إلى بيت المال قبل أن يكون السبيل لرد المظالم إلى أهلها من حسناته فإن فنيت حسناته أخذ من سيائتهم فطرحت عليه. قال ﷺ «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فَلْيَأْتِهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَوُضِعَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ» مسند البزار(8/ 173)
وليحذر من الشبهة الشيطانية التي يوسوس بها على كثير من الناس فإن الرجل يحدث نفسه أن يكون أميناً ثم يرى رئيسه في العمل أو زملاءه أو صاحب منصب كبير وهو يسرق ويأخذ بغير وجه حق فيقول له الشيطان الناس كلها تسرق وتأخذ حتى فلان فلان هل انت أفضل منهم أو أنت أحرص منهم وهكذا لا يزال يوسوس له حتى يضعف فيسرق وتمتد يده لما حرم الله مع أن الناس لن ينفعوه فسيحاسب وحده ويجازى وحده ولا يعذره يوم القيامة أن يقول من كان حولي ومن فوقي كانوا أيضاً يرتشون ويسرقون ويخونون.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم بحفظه وأن ييستعملنا في طاعته وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وان يجعل رزقنا حلالاً وأن يبارك لنا فيه وأن يرزقنا القناعة به إنه سميع مجيب الدعاء والحمد لله ربب العالمين.