العنوان : حرمة التستر التجاري وأضراره على المجتمع خطبة مكتوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ مِن أعظمِ أسبابِ الأمنِ والاطمئنانِ في البلاد استقرارَ الأحوالِ الاقتصاديةِ فيها، فإنه إذا اضطربَ الاقتصادُ، وفَشَا الفقرُ، وانتشرتِ البطالةُ، ساءتِ الأخلاقُ، وكثُرتِ الجريمةُ، واختلَّ الأمنُ، وربّما أَفْضتِ الأحوالُ إلى سقوطِ الأوطان، وخرابِ البلدانِ، والعياذُ بالله.
وإنّنا بحمدِ الله وفضلهِ نعيشُ في بلدٍ آمِنٍ مستقرٍّ، في بلدٍ أفاءَ اللهُ عليهِ الكثيرَ مِن الثرواتِ الظاهرةِ والباطنةِ، وسخّرَ ولاةَ الأمورِ لاستغلالِها في مصالحِ الوطنِ وأهلهِ، ومصالح المسلمينَ شرقاً وغرباً والحمد لله، وهذه النعمةُ توجبُ علينا شكرَ اللهِ عليها، والقيامِ بحقِّها، من توحيدهِ وطاعتهِ، واجتنابِ معصيتِه، فإنّ كفرانَ النّعمِ، وجحودَ الـمُنعِمِ، ومقابلةَ المتفضّلِ بها بالمعصيةِ والمخالفةِ من أسبابِ زوالها، قال تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
عباد الله:
هناك أيضاً أسبابٌ كثيرةٌ تُفْسِدُ قِسْماً كبيراً من هذه الخيرات، وتَحْرِمُ منها أبناءَ الوطنِ، فلا ينتفعونَ بها، وعلى رأسِها جريمةُ التَّستُّرِ التجاري، التي يخسرُ وطنُنا بسببِها كلَّ عام ما يزيدُ على ثلاثِمائةِ مليارِ ريال.
ومن أَبرزِ صُوَرِ جريمةِ التَّستُّرِ أن يُمَكِّنَ المواطنُ غيرَ المواطنِ من النشاطِ التجاريِّ باسمهِ، أو بِسِجِلِّهِ التجاري.
فحين يَتَّفِقُ المواطنُ مع غيرِ المواطنِ أنْ يفتحَ بِقالةً، أو مَشْغلَ خياطةٍ، أو ورشةً، أو غيرَها باسمه، مقابلَ مبلغٍ مُعَيّنٍ كُلَّ شهرٍ مثلاً، فهذه صورةٌ من صُوَرِ التَّستُّر التجاري. بل هي جريمةُ تسترٍ ولو كان المواطنُ متبرعاً لا يأخذُ منه قليلاً ولا كثيراً.
وهذا العملُ حرامٌ لا يجوز، وإن ظنّهُ كثيرٌ من الناسِ حلالاً لما يرونَ فيهِ من المصلحةِ للطرفينِ، مصلحةِ المواطنِ الـمُتَسَتِّرِ بالكَسْبِ السَّهلِ الـمُيَسّر، ومصلحةِ الـمُتَسَتَّرِ عليه بالاتّجار والرّبح.
أَمّا لماذا أفتى أهلُ العلمِ بِحُرْمَةِ التَّستُّر؟، فللأدلّةِ التالية:
أولاً: أنَّ وليَّ الأمرِ نهى عنه، وعَدَّهُ جريمةً، ورَتّبَ عليهِ العقوباتِ التعزيريةِ الشديدةِ من السجنِ والغرامةِ والتشهيرِ. ونحنُ مأمورونَ بطاعةِ ولاةِ أمورِنا قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وطاعتُهم هي وصيةُ رسولِ الله ﷺ لنا في آخرِ حياتِه إذ قال: ” أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعة”. فمَنْ أطاعَ وليَّ الأمرِ فقد أطاعَ اللهَ والرسول، ومن عصى وليَّ الأمرِ فقد عصى اللهَ والرسول، قال ﷺ : “مَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي” متفقٌ عليه.
ثانياً: أنّ عقدَ الشراكةِ بينَ الطرفينِ في التَّستُّرِ التجاريِّ ليسَ من الشركاتِ التي أَذِنَ فيها الشارعُ الكريم، لذلكَ قرّرتْ هيئةُ كبارِ العلماءِ “عدمَ صحةِ عقدِ هذه الشركةِ، وأنّه يجبُ على المسلمينَ الكفُّ عن التعاملِ بها، والاكتفاءُ بالشركاتِ والعقودِ الجائزةِ في الشريعةِ الإسلامية”.
ثالثاً: أن التَّستُّرَ جريمةٌ مَبْنِيّةٌ على التغريرِ والكذبِ، وتزويرِ الحقائقِ، وعلى الخداعِ والغِشِّ، ومغايرةِ الظاهرِ للباطن، فالمالِكُ في الظاهرِ هو المواطنُ، والمالكُ الحقيقيُّ في الباطنِ هو الـمُتَسَتَّرُ عليه، والعقودُ والمعاملاتُ تُبْرَمُ باسمِ غيرِ المالكِ في الحقيقةِ، وكلُّنا نَعلمُ أنّ الكذبَ والخداعَ وقولَ الزورِ من الـمُحرّماتِ في دينِنا الإسلامي، وأَنّها خصالٌ تأبها الفِطَرُ السليمةُ، وتَسْتَقْبِحُها النفوسُ السَّوِيّة.
رابعاً: قال ﷺ “لعن الله من آوى محدثاً” رواه مسلم، والمواطنُ الـمُتَسَتِّرُ قد آوى هذا المخالفَ وأعانَهُ وحماه، ووفّرَ له البيئةَ الآمنةَ النظاميّةَ في الظاهرِ بتمكينهِ له من ممارسةِ التجارةِ باسمهِ، أو بِسِجِلّهِ التجاري عن عَمْدِ وقصدٍ، مع أنَّ وليَّ الأمرِ يأمرُ بالإبلاغِ عنه، والدلالةِ عليهِ لاستيفاءِ الحقوقِ التي تهرّبَ منها، ومعاقبتهِ بالعقوبةِ التي يستحقُّها، فكيف تحميه وتصونه؟! وقد قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : “مَنْ كَتمَ ما يجبُ إظهارُهُ مِن دلالةٍ واجبةٍ ونحوِ ذلك، يُعاقبُ على تركِ الواجب”. أيْ يُعاقبُ على تركِ الإبلاغِ عمّا وجبَ عليهِ الإبلاغُ عنه.
إخوةَ الإيمان:
إنّ الأدلةَ التي بُنِيَ عليها تحريمُ التَّستُّرِ التجاريِّ كثيرةٌ، ولو لم يكن إلا منعُ وليِّ الأمرِ لكفى به مانعاً. فاتقوا الله تعالى، واحترسوا من التَّستُّرِ التجاريِّ بكل صوره، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، وعلى آلهِ وصحبهِ، ومن اقتفى أثَرهُ واتّبعَ هديَه.
أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله واعلموا أنّ وليَّ الأمرِ لـمّا منعَ التَّستُّرَ التجاريَّ لم يمنعْهُ إلا لـِما فيه من الأضرارِ الكبيرة، والشُّرورِ المستطيرة، ومنها على سبيلِ المثال:
أَنّهُ سببٌ رَئيسٌ من أسبابِ بطالةِ أبناءِ الوطن وبناتِه، فإنَّ غيرَ المواطنِ إذا كان هو المالكُ الحقيقيُّ فسيحرِصُ على توظيفِ أهلِه وأقاربهِ وبني جنسهِ وعلى تشغيلهِم عنده، وسيحرصُ على رفضِ المواطن ما استطاع، وإنْ قَبِلَهُ مُكْرَهَاً سعى في أن يُبَغِّضَ إليهِ العملَ حتى يتركَهُ سريعاً.
ومن أضرارهِ كذلك أنّ غيرَ المواطنينَ إذا صاروا هم الـمُلّاكَ الحقيقيينَ للمالِ، والمتحكِّمينَ في النشاطِ التجاري سَعَوْا في حربِ من يَدخُلُ سوقَ العملِ من المواطنين، واتّحدتْ كلمتُهُم عليه، حتى يَخسرَ ويتضررَ فيَخْرُجَ من السوق، لِيَخْلُوَ لهم الجَوُّ، ويستأثِروا بأرباحهِ الطائلة.
وحينَ يشتكي كثيرٌ من الناسِ من هذه الظاهرةِ يَغْفَلونَ ولا ينتبهونَ أنّ السببَ الرئيسَ في هذا الوضعِ المؤسفِ هو مواطنٌ آخَرُ تَسَتّرَ على هؤلاءِ ومَكّنَهم مِن هذا السلوكِ القبيحِ الـمَشِيْنِ.
ومن أضرارِ التَّستُّرِ التجاريِّ فُشُوُّ الغِشِّ التجاري؛ لأن الـمُتَسَتَّرَ عليهِ _غالِباً_ لا يُفَكّرُ كثيراً في مصلحةِ وطنِك أيها المواطن، وإنّما الذي يُهِمّهُ غالباً هو الربحُ سواءٌ جاءَ من حلالٍ أو حرام، من بيعِ شيءٍ نافعٍ أو ضار. ولهذا نَرى في حَمَلاتِ التفتيشِ كثيراً من العَمالةِ تُمارسُ الغِشَّ الخطيرَ الـمُهَدِّدَ للحياةِ والصحةِ والسلامةِ في الأطعمةِ والأدويةِ فضلاً عن غيرِهما.
ومن أضرارِ التَّستُّرِ التجاريِّ أنّهُ يقتلُ رغبةَ المواطنِ في العملِ والاكتساب، وتنميةِ مهاراتهِ في البيعِ والشراءِ.
وخلاصةُ القولِ: أنّ التَّستُّرَ التجاريَّ يَضُرُّ الوطنَ في اقتصاده وأمنه، وفي رُقِيِّهِ ونهضتِه، ويضرُّ المواطنَ والمقيمَ النظاميَّ على السَّواءِ، ويُلْحِقُ بهما أذىً عظيماً في نشاطِهم وعملِهم، ومع ذلك فالمواطنُ الـمُتَسَتِّرُ للأسفِ الشديدِ تَعمى عيناهُ عن كُلِّ هذهِ الأضرارِ الخطيرةِ، ولا ترى عيناهُ إلا مصلحتَه الشخصية.
فَلْنُغَلِّبْ تقوى اللهِ ومراقبتَه، ولْنُغَلِّبْ المصلحةَ العامّة، ولْنَكُنْ يداً واحدةً مع ولاةِ أمورنا فيما مِن شأنِه حفظُ دينِنا وأمنِنا واقتصادنِا واجتماعِ كلمتِنا. حفظ الله بلادنا من كل سوء، وسائر بلاد المسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم وفق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين لما تحبه وترضاه يا حيُّ يا قيوم، اللهم أصلح لهم البطانة يا ذا الجلال والإكرام. اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذاب النار.
عباد الله! اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروا له على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.