العنوان : من فضائل يوم عرفة، وتحذير السلف من الاجتماع عصر عرفة في المساجد
فضل يوم عرفة خطبة 1443هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أما بعد:
فإن هذا اليومَ يومَ عرفةَ من أعظمِ الأيام عند الله تعالى فهو اليومُ الذي أكملَ الله لنا فيه الدين، وأتمَّ فيه علينا النعمة، ورضيَ لنا الإسلامَ ديناً بصفته التي استقر عليها، ووصل إليها، بعد أن أكملَهُ وأتمّهُ ذلك اليوم، وهو اليومُ الذي يئِسَ فيه المشركون يأساً تامّاً أن يردُّوا المسلمين عن دينِهم إلى الشركِ والكفرِ لـمَّا رأوا الحشودَ العظيمةَ معَ النبيِّ ﷺ في حِجة الوداع، كلُّهم مسلمونَ موحّدونَ ليس فيهم مشرك، وفي ذلك قال تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
واختصَّ اللهُ حُجّاجَ بيتهِ الحرامِ في عرفةَ بخصائصَ لا يُشارِكُهم فيها غيرُهم، فَفَرضَ عليهم الوقوفَ بعرفة هذا اليومَ، وجعلَ الوقوفَ فيهِ رُكنَ الحجِّ الأعظمِ، فمَنْ فاتَهُ الوقوفُ فاتهُ الحجُّ لقولهِ ﷺ (الحجُّ عرفةُ). ومما خصَّهُمُ اللهُ به أنّهُ يدنو إلى سماءِ الدنيا عَشِيَّةَ عرفةَ فَيُفَاخِرُ ملائكتَهُ بحجاجِ بيتِه ويقولُ: (ما أراد هؤلاء؟) أي ما أرادوا حين جاؤوا من كلِّ فجٍّ عميقٍ إلا ابتغاءَ رحمتي، وخوفَ عذابي، ومَنْ فَعلَ ذلك غفرتُ له ذنبَهُ ورَحِمْتُه، ووقيتُه مِن عَذابي وأَجَرْتُه.
ومِن خصائصِ الحُجّاجِ بعرفةَ مشروعيةُ اجتماعِهم في صعيدِ عرفاتٍ يدعونَ اللهَ ويذكرونَهُ مِن بعدِ زوالِ الشمسِ حتى تغيبَ، كما فعلَ النبيُّ ﷺ فإنّه بعدما خطبَ الناسَ وصلى بهم الظهرَ والعصرَ جَمعاً وقَصْراً ثم انطلقَ حتى وصلَ الى الصخراتِ أخذَ ﷺ في دعاءِ اللهِ وذكرهِ حتى غربتْ الشمسُ.
وأما غيرُ الحجاجِ فيُشرعُ لهم صيامُ هذا اليومِ لقولهِ ﷺ «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» رواه مسلم.
ولغيرِ الحاجِّ أن يدعوَ الله في هذا اليومِ لأَنَّ الدعاءَ عملٌ مشروعٌ في كلِّ وقتٍ، ويُرجى أن يكونَ قولُه ﷺ (خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ) شاملاً للحاجِّ وغيرِ الحاج، واليومُ يومُ جمعةٍ والدعاءُ بعدَ عصرِ الجمعةِ إلى غروبِ الشمسِ يُرجى رجاءً قوياًّ أن يكونَ ساعةَ إجابةٍ، وإذا اجتمعَ معهُ الصيامُ لأجلِ عرفةَ أو لسببٍ آخَرَ غيرِ تخصيصِ الجمعةِ بصيامٍ كان الرجاءُ في الإجابةِ أكثرَ، لأنَّ الصيامَ من أسبابِ إجابةِ الدعاء.
وأمّا الاجتماعُ في المساجدِ عَشِيَّةَ عرفةَ في غيرِ عرفةَ فإنَّ النبيَّ ﷺ لم يَفْعَلْهُ حتى لقيَ ربَّه، ولم يَفْعَلْهُ خلفاؤُه الراشدونَ رضي الله عنهم، وجزمَ جماعةٌ من السلفِ من كبارِ التابعينَ وممنْ بَعدهمْ بأَنّهُ عملٌ مُحدثٌ، وبدعةٌ في الدين، وأنه يجرُّ إلى بدعٍ ومنكراتٍ أُخرى، ولم يستحبَّهُ الإمامُ أحمدُ ولم يرَ مشروعِيّتَهُ ولا سنّيتَهُ، ولم يَفْعَلْهُ وإن رخّصَ فيه. وقد نقلَ الطُرْطُوشِيُّ في كتابِ “الحوادثِ والبِدَعِ” قولَ نافع ِمولى ابنِ عمرَ لِـمَنْ اجتمعوا في المسجد عَشِيَّةَ عرفة:” يا أيها الناس! إنّ الذي أنتم فيهِ بدعةٌ وليستْ بِسُنّةٍ، أدركتُ الناسَ لا يصنعونَ هذا”، وقولَ عطاءٍ الخراساني: ” إنْ استطعتَ أن تخلوَ عَشِيَّةَ عرفةَ بنفسكَ فافعل” ثم قال: “فاعلموا رحمكم الله أنّ هؤلاءِ الأئمةَ علموا فضلَ الدعاءِ يومَ عرفة، ولكنْ علموا أنّ ذلك بموطنِ عرفةَ لا في غيرِها، ولم يمنعوا مَن خلا بنفسهِ فحضرَتُهُ نيةٌ صادقةٌ أن يدعوَ اللهَ تعالى، وإنما كرهوا الحوادثَ في الدين، وأن يَظنَّ العوامُّ أنّ مِن سُنّةِ يومِ عرفةَ بسائرِ الآفاقِ الاجتماعَ والدعاءَ، فيَتَداعى الأمرُ إلى أنْ يَدخُلَ في الدينِ ما ليسَ منه” اهـ. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وأعاذني وإياكم من البدع في الدين، أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واجتهدوا فيما بقي من هذه العشرِ المباركات، واحرصوا أن تكون عباداتُكم فرضُها ونفلُها ، سرُّها وجهرُها موافقةً للسُنَن، خاليةً من البدع، فإنّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان لوجههِ خالصاً، ولشرعهِ موافقا. اللهم فقّهنا برحمتك في الدين، واحفظ الحجاجَ والمعتمرين، ويسر لهم أداءَ مناسكهم آمنين، واجزِ حكومةَ خادمِ الحرمينِ الشريفينِ خيرَ الجزاء على ما تقومُ به من خدمةٍ فريدةٍ للحرمينِ الشريفينِ وقاصدِيْهما من الحُجّاجِ والعُمّارِ والزُّوار، اللهم أَعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، وانصر عبادَكَ الموحدين، اللهم وفّقْ إمامَنا ووليَّ عهدهِ لما فيهِ رضاك، واجعلْ عملَهم موافقاً لهُداك، وارزقهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا سميع الدعاء، اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذابَ النار. اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلمات، والمؤمنينَ والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأموات، اللهم صلِّ وسلّمْ على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.