العنوان : من صور الوسطية في التعامل مع الكفار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، يوفكم ما وعدكم به في محكم آياته، من وقاية عذابه والفوز بجناته.
عباد الله:
إن الله تعالى شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، دِيناً سَمْحاً وسَطاً، لا غُلوَّ فيهِ ولا تفريط، ومن مظاهرِ سماحتهِ ووسطيتهِ أنّه حرّم على المسلمين تولّي الكفار، والركونَ إليهم، والتشبهَ بهم فيما يختصون به، ومع ذلك أباحَ للمسلمينَ البرَّ بهم، والإحسانَ إليهم، والتعاملَ الدنيويَ معهم، في حدودِ ما أَذِن الله فيه.
ففي تحريم مُوادَّتِهم نقرأُ قولَهُ تعالى ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
وفي تحريمِ موالاتِهم أنزلَ اللهُ تعالى قولَه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
وفي تحريمِ الركونِ إليهم قال جلّ وعلا: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾
وفي تحريمِ التشبهِ بهم والاقتداءِ بِسُنَنِهمْ قال ﷺ مُنْذِراً ومُحَذِّراً: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟» متفق عليه. وقال ﷺ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» قال ابن كثير رحمه الله: «فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ، وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لم تشرع لنا ولا نُقَرر عَلَيْهَا» اهـ.
ونهى النبيُّ ﷺ أن يذبحَ المسلمُ للهِ تعالى في مكانٍ يتخذُه أهلُ الجاهليةِ عِيداً لهم، فما ظنُّك بمشاركتِهم في أعيادِهم وإظهارِ الفرحِ والسرورِ بها، مع ما يكونُ فيها من إظهارِ معالمِ الشركِ والوثنية؟!.
وقال تعالى في صفاتِ عبادِ الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ قال مجاهدٌ والربيعُ بنُ أنسٍ وغيرُهم من التابعين: “أي لا يَشهدونَ أعيادَ المشركين”.
فاعتزّوا بدينِكم عبادَ الله، وتمَسّكوا به، ولا تَغترّوا بما يخالفُ الكتابَ والسُّنّة، وما كان عليه سلفُ الأُمّة، مهما زخرفوا مخالفةَ الكتابِ والسُّنّةِ بالأباطيل، ومهما زيّنوا الباطلَ بالأَضاليل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقولُ هذا القول، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى وإن حرَّمَ علينا موالاةَ الكفار إلا أنّه نهى عن ظلمِهم، والعدوانِ عليهم، قال الله في الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تَظالموا” وفي الحديث الصحيح “مَن قَتل مُعاهَدَاً لم يُرِحْ رائحةَ الجنّة”
وأباح الله تعالى البرَّ بهم والإحسانَ إليهم فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
وقالت أسماء بنت أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي، قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ.» متفق عليه. وكان أحدُ غلمانِ اليهودِ يخدِمُ النبيَّ ﷺ في المدينة فمرضَ فعاده النبي ﷺ في مرضه وعرض عليه الإسلامَ فأَسلمَ والحمدُ لله.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ” أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللهِ ﷺ إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فَأَجَابَهُ ” رواه أحمد. وقالت عائشة رضي الله عنها “توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ”
فدلّتْ هذه الأحاديثُ وأمثالُها على جوازِ التعاملِ مع الكفارِ بأصنافِهم بالبِرِّ والإحسان وبالبيع والشراء ما لم يكونوا محاربينَ، -فإن كانوا محاربين فحرام على المسلم أن يبيعهم ما يستعينون به على حرب الإسلام وأهله-، مع استحضارِ ما سبقَ من تحريمِ موالاتِهم والتشبهِ بهم، ومشاركتِهم في أعيادِهم وغيرِ ذلك مما يدخل في الموالاةِ المحرَّمة.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأَذِلَّ الشرك والمشركين. وانصر عبادَك الموحدين. اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.