العنوان : اسم الله الغفور
الحمدُ للهِ واسعِ المغفرةِ، عَظيمِ الفضْلِ والهبةِ، له الحمدُ -سبحانَه- في الأولى والآخِرةِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، غافرُ الذنبِ وقابل التَّوبِ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أرسله ربُّه رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
أما بعد: فإن الحديث عن أسماء الله وصفاته بمقتضى الكتاب والسنة مما يزيدُ معرفةَ العبدِ ربَّه، ويقوّي إيمانَهُ بهِ وحبَّه، ويبعثه على طاعتهِ رغبةً إليه ورهبة، ولشرفِ العِلمِ بالله، وعِظَمِ الحاجة إلى معرفةِ أسمائه وصفاته كانت آيةُ الكرسيِّ أعظمَ آيةٍ في كتاب الله، وكانت سورةُ الإخلاصِ تعدلُ ثُلثَ القرآن، لما اشتَمَلتا عليه مِن ذِكْرِ اللهِ تعالى بأسمائهِ الحسنى وصفاتهِ العُلى.
ومن أسماءِ الله التي سمّى بها نفسَهُ الغفّارُ، والغفورُ والغافرُ، وهي أسماءٌ عظيمةٌ حبيبةٌ إلى النفوس، مُشْتَقّةٌ من الغَفْر الذي هو السَّتْر، ومعنى هذه الأسماء: أن الله تعالى يستر ذنوبَ عبادِه، ويمحو آثارَها، ويُقْبِلُ على مَن غَفَر له بفضلهِ ورحمتهِ وإحسانِه. ويجب أن يُعلم أنّ مغفرةَ الذنوبِ والخطايا صفةٌ خاصة بالله تعالى فلا أحدَ سواه يقبلُ التوبةَ ويغفرَ الذنب، قال تعالى {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} أي لا يغفرُ الذنوبَ إلا الله، ومن اعتقدَ في مخلوقٍ أنه يغفرُ الذنوب فقد جعله شريكاً مع الله والعياذ بالله.
ثم إن الغفار والغفور صيغة مبالغة فيدلان على أن الله كثير المغفرة وواسع المغفرة، فمهما بلغت ذنوب العباد فمغفرة الله تعالى أوسع وأكبر وأعظم.
وإذا تأملنا آيات المغفرة وجدنا في الغالب اقترانَ المغفرةِ بصفةٍ أخرى من صفاتِ الله تعالى، ولهذا الاقترانِ بين الصفتين معانٍ عظيمةٌ، وفوائدُ جليلة، نشير ُإلى بعضها، فمن ذلك أن الله قرن بين المغفرة والرحمة كقوله تعالى {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} وقولهِ تعالى {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكان المعنى أن الله تعالى يغفرُ ذنوبَ العبدِ التي سلفتْ في ماضيه، ويرحمُ العبدَ فيحفظُهُ ويَلْطُفُ به ويحسنُ إليه في مستقبله.
وقَرَنَ الله تعالى بين المغفرةِ والحِلْم فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي أنه غفورٌ يستر الذنوب ويتجاوز عنها، وحليمٌ: يمهل العُصاة ولا يعاجلهم بالعقوبة حتى يتوبوا فيغفرَ لهم، فلا ينبغي للعاصي أن يَفهمَ من إمهالِ اللهِ له أنّ اللهَ غافلٌ عنه، أو مُهْمِلٌ له، بل هذا أثرُ حِلْمِ اللهِ عنه، وإمهالهِ إياه، وإعطائهِ الفُرصةَ ليستغفرَ ويتوب، ويرجعَ إلى اللهِ ويؤوب.
وجَمعَ اللهُ بين العفوِ والمغفرة، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} وذلك ليظهرَ لعبادهِ سَعةَ كرمهِ ورحمتِه، فإن العَفْوَ هو المسامحةُ عن الذنب، وأما المغفرة فتزيد على المسامحة بدلالتها على محوِ أضرارِ الذنب، وإقبالِ الله على عبدِه ورضاهُ عنه، وإحسانهِ إليه.
وجمع الله بين المغفرة والشكر فقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} وذلك ليبشرَ عبادَه أنه يغفرُ سيئاتهِم، وأنهُ يضاعفُ أجورَهم على صالحِ أعمالهِم. فما أكرمَهُ مِن رَب، يسترُ العيبَ ويغفرُ الذَّنب، ويقبلُ العمل الصالح، ويثيبُ عليه أعظمَ الأجر.
وقرنَ الله تعالى بين العزة والمغفرة فقال {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} وذلك حتى يجمعَ العبدُ بين الخوف من عذابِ الله، والرجاءِ في ثوابِ الله، فهو العزيزُ فيُخشى، وهو الغفورُ فيُرجى. كما قال تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.
ووصف اللهُ نَفْسَه فقال {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} ومعنى ذلك أن مغفرتَه وسعتْ كل ذنب، حتى لو أشرك العبد ثم استغفرَ وتابَ ووحّد اللهَ غفرَ الله له، قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وقال ﷺ: “قالَ اللَّهُ -تبارَكَ وتعالى- يا ابنَ آدمَ: إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني؛ غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغتْ ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أُبالي، ” الحديثَ. رواه الترمذي.
فلا يأْسِ ولا قُنوطَ من رحمةِ الله مهما بلغتْ ذنوبُ العبدِ والحمد لله. ولا يحلُّ لأحدٍ أن يُقنّطَ أحداً من رحمةِ الله ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنّ رجلاً قال “واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللَّهَ -تعالى- قالَ: مَن ذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ”. فالعاصي يُوعظ ويدعى إلى التوبة ويُرغّبُ فيها ولا يُقنَّطُ من رحمةِ الله، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى بيّن لعباده أسباب مغفرته ليأخذوا بها، فأعظمُ أسبابِ المغفرة تحقيقُ التوحيدِ، واجتنابُ الشرك كُلِّه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: “يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًاٍ لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً”.
ومن أسباب المغفرة لزومُ سنةِ النبي ﷺ واتباعُها قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ومن أسبابِ المغفرةِ تقوى اللهِ تعالى في الأقوال والأعمال، قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا () يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
ومن أسباب المغفرةِ بذلُ الصدقات قال تعالى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
ومن أسبابِ المغفرة أن تغفر عمن أساء إليك فإنّ الجزاء من جنسِ العمل، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ومن أسبابِ المغفرة رحمةُ الخلقِ حتى البهائم قال ﷺ: “غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، _يعني زانية_ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، _أي عند بئر_ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ ” رواه البخاري.
ومن أسبابِ المغفرةِ الاستغفارُ الصادقُ قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} فأكثروا من الاستغفارِ فإنَّ نبيَّكم ﷺ كان يستغفرُ الله في المجلس الواحدِ مِئَةَ مرة، والأسحارُ من خيرِ أوقاتِ الاستغفار، فقد أثنى الله عز وجل على قومٍ فقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} وقال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وقد وعدَ اللهُ المستغفرينَ في عاجلِ دنياهم بالمالِ والبنين، والصحةِ والرزقِ والغيثِ وغيرِ ذلك؛ قال نوح لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا () يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا () وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } وقال هودٌ لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} فمن أراد السلامةَ من المخاوف والأوجال، والفوزَ بصالحِ الأماني والآمال فعليه بكثرةِ الاستغفار.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمِنا مُطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين. اللهم وفِّق إمامنا وولي عهده لهُداك، واجعَل عملَهم في رِضاك، اللم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.