العنوان : التحذير من الفساد المالي والإداري
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أما بعد:
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَاجْتِنَابِ خِيَانَتِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]، وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].وَمَدَحَ اللَّهُ المُحَافِظِينَ عَلَى أَمَانَاتِهِمْ، وَالمُرَاعِينَ لَهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ، وَوَعَدَهُمْ بِالفَلَاحِ وَالفَوْزِ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) إِلَى أَنْ قَالَ سُبْحَانَهُ (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج: 32 و 35].
وَلَمَّا كَانَتِ الخِيَانَةُ نَقْصًا عَظِيمًا فِي الإِيمَانِ نَفَى النَّبِيُّ ﷺ كَمَالَ الإِيمَانِ عَنِ الخَائِنِ فَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: “لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ”. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ،
لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَجَبًا أَنْ تَكُونَ خِيَانَةُ الأَمَانَةِ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ كَمَا قَالَ ﷺ: “آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ”. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَفَى بِهَذَا الوَصْفِ مُحَذِّرًا وَمُنَفِّرًا.
عباد الله:
إِنَّ المُوَظَّفَ إِذَا أَضَاعَ أَمَانَتَهُ، فَأَهْدَرَ الوَقْتَ، وَأَكَلَ الرَّشْوَةَ، وَسَرَقَ المَالَ العَامَّ، وَتَرَبَّحَ بِالوَظِيفَةِ، وَاسْتَغَلَّهَا بِغَيْرِ وَجْهٍ حَقٍّ، تَعَطَّلَتِ المَصَالِحُ، وَتَأَخَّرَتْ عَجَلَةُ التَّنْمِيَةِ، وَبَانَ الخَلَلُ فِي المَشَارِيعِ، وَتَعَسَّرَتْ حَيَاةُ النَّاسِ، وَضَاعَتِ الحُقُوقُ، وَبَانَ الفَسَادُ فِي شَتَّى المَجَالَاتِ كالصِحَّةِ والتعليمِ، والقَضَاءِ والتَّوظيفِ، لِذَا كَانَ الفَسَادُ الإِدَارِيُّ وَالمَالِيُّ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الفَسَادِ لِعُمُومِ ضَرَرِهِ، وَشِدَّةِ خَطَرِهِ، وَدِينُنَا الحَنِيفُ جَاءَ بِتَحْرِيمِ الفَسَادِ كُلِّهِ، فَنَهَى عَنِ الشِّرْكِ وَالبِدَعِ وَالمَعَاصِي، وَنَهَى عَنِ الخِيَانَةِ فِي العُقُودِ، وَنَهَى عَنِ الاعْتِدَاءِ عَلَى المَالِ العَامِّ وَالخَاصِّ، قَالَ تَعَالَى نَاهِيًا عَنِ الفَسَادِ كُلِّهِ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف: 56]، وَقَالَ تَعَالَى نَاهِيًا عَنِ الرِّشْوَةِ وَعَنِ الغُلُولِ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161].
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ ﷺ: (إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَأَمَّا حِينَ يُؤَدِّي المُوَظَّفُ أَمَانَتَهُ، فَيَقُومُ بِوَاجِبِهِ خَيْرَ قِيَامٍ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إِلَى حَرَامٍ، وَيَرْعَى مَالَ الدَّوْلَةِ كَمَا يَرْعَى مَالَ نَفْسِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْعَكِسُ بَرَكَةً فِي حَيَاتِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُ الأَمَانَةِ وَالنَّزَاهَةِ حِينَ تَكُونُ سُلُوكًا عَامًّا يَتَخَلَّقُ بِهِ الأَكْثَرِيَّةُ فِي سُرْعَةِ قَضَاءِ حَاجَاتِ النَّاسِ عَلَى أَكْمَلِ الوُجُوهِ، وَتَحْقِيقِ أَهْدَافِ التَّنْمِيَةِ، وَفِي نَهْضَةِ البِلَادِ، وَاسْتِمْرَارِ رَخَائِهَا وَازْدِهَارِهَا، وَاغْتِبَاطِ أَهْلِهَا بِهَا وَهُمْ يَعِيشُونَ فِي بَلَدٍ آمِنٍ مُطْمَئِنٍّ سَعِيدٍ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ نَكُونَ كَذَلِكَ وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ يَرْتَدِعُ عَنْ أَكْلِ المَالِ العَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ الدَّوْلَةِ هم فِي الغَالِبِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَرْتَدِعُ عَنْهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ وَسَائِلِ تَخْفِيفِ الفَسَادِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ هُوَ الإِبْلَاغُ عَمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ، فَإِنَّ الإِبْلَاغَ عَنْهُمْ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، كَمَا أَنَّ السُّكُوتَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ هُوَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [المائدة: 2].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُمْ فِي رِضَاكَ، وَارْزُقْهُمُ البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ..